مقالات
إيهاب شوقي
دأب الشيطان الأميركي على صياغة التحالفات والتحالفات المضادة وقيادة كلّ منها بشكل يثير العجب والاشمئزاز، ولكن العجب الأكبر هو في انصياع الدول التابعة لهذه التناقضات الصارخة والتزامها التبعية في جميع الحالات، وانضمامها لكل تحالف ونقيضه، فقد صنعت أميركا التنظيمات الإرهابية تحت راية "الإسلام" زورًا مثل تنظيم "القاعدة" لمحاربة الاتحاد السوفييتي بعد حملة دعايات لشيطنته، ثمّ ما لبثت أن بثت حملة دعايات لشيطنة "القاعدة" لصياغة تحالفات دولية لمحاربته.
حتّى على مستوى الانشقاقات والتنوعات المنبثقة من "القاعدة"، فقد وظفت أميركا "داعش" في منظومة الهيمنة بحيث شكلت رأس حربة على خصوم أميركا والكيان وتحولت إلى ميليشيا جيواستراتيجية تنفذ أهداف أميركا في المنطقة.
وفي أحدث التجليات لهذا الاستخفاف بالعالم، يستقبل الرئيس الأميركي واحدًا من قيادات تنظيم "القاعدة" في البيت الأبيض بصفته رئيسًا لبلد عربي كبير مثل سورية، وهو بلد هام وله وزنه الإستراتيجي في الأمن القومي العربي ودور وازن في الصراعين الإقليمي والدولي.
يستقبل ترامب "أبو محمد الجولاني" بمسماه الآخر "أحمد الشرع" والذي كان عضوًا بارزًا في تنظيم "القاعدة" بالعراق ومقربًا من مؤسسه أبو مصعب الزرقاوي، ثمّ كان موفد أبو بكر البغدادي إلى سورية لتأسيس فرعها في سورية باسم "جبهة النصرة"، والذي لا يعرف أعضاء الجبهة عنه شيئًا بما فيه تاريخ مولده.
واللافت أن هناك تضاربًا حتّى في المصادر التي تروي لقاء الجولاني والبغدادي، فبينما تذهب معظمها إلى أن التعارف جاء في سجن "بوكا" الأميركي في العراق والذي شكّل مفرخة لقيادات "داعش"، تقول بعض المصادر الأميركية أن الجولاني تم سجنه في معتقل آخر، وذلك لزيادة هالة الغموض المحيطة بالرجل.
إلا أن الثابت أن فترة احتجاز الجولاني كانت أطول بكثير من البغدادي الذي خرج لمهمة محدّدة ليتوارى عن الأنظار، بينما تم إعداد الجولاني لمهمة أكبر بدأت تتكشف مع العفو عنه ورفع اسمه من قائمة الإرهاب وتنصيبه رئيسًا لسورية ورفع العقوبات عنها وإبداء ترامب إعجابه الشخصي بالجولاني وتأييد برّاك له وجعله نموذجًا يطالب لبنان والمنطقة بالاقتداء به!.
والمطروح حاليًّا كشفت عنه صحيفة "هآرتس" الصهيونية والتي أفادت بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يضع اللمسات الأخيرة على صفقة شاملة مع سورية حول تفاهمات أمنية مع "إسرائيل"، وانضمام دمشق إلى "الاتفاقات الإبراهيمية".
وهذه الصفقة، وفقًا للصحيفة، تُعد جزءًا من جهود أميركية لتعزيز الاستقرار في سورية من خلال دمجها في إطار أمني وإقليمي أوسع، بما يشمل مشاركتها في "التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش""، وتطبيع علاقاتها مع "إسرائيل" ضمن آلية غير مباشرة تُدار عبر الوساطة الأميركية.
وهو ما أكده المبعوث الأميركي إلى سورية، توم برّاك، والذي قال إن أحمد الشرع (الجولاني) سيوقّع اتفاقية الانضمام الرسمي لسورية إلى "التحالف الدولي ضدّ تنظيم "داعش"".
وبنظرة إلى هذا التحالف فهو من التحالفات التي تشكّل اختراقات جيواستراتيجية، وهو دأب أميركا في أكثر من منطقة بالعالم.
فقد تأسس التحالف رسميًا في 10 أيلول/سبتمبر 2014 بمبادرة من الولايات المتحدة الأميركية، وضمّ في بدايته أكثر من 60 دولة، ثمّ توسّع ليشمل أكثر من 85 دولة ومنظمة دولية حتّى عام 2024.
ورغم الشواهد والأدلة التي قالت إن أميركا تدعي قصف التحالف نهارًا وإمداده بالعتاد والسلاح ليلًا بعد الكشف عن معدات أميركية أنزلت بالمظلات في معسكرات""داعش"، إلا أن أميركا استمرت في تكوين التحالف وضم الدول والمنظمات الدولية له.
وهناك عدة أمور لافتة في تشكيل التحالف يمكن رصدها تاليًا:
1 - الدول الغربية والقوى المؤسسة للتحالف تحت قيادة أميركا ضمت تحالف العيون الخمس الذي يشمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وهو تحالف يخضع لمعاهدة تختص بمجال التعاون المشترك في استخبارات الإشارات، وتعود أصوله إلى فترة ما بعدَ الحرب العالمية الثانية، عندما أصدر الحلفاء "ميثاق الأطلسي" لوضع أهدافهم لعالم ما بعدَ الحرب، ثمّ طوّر التحالف نظام المُراقبة "إيكيلون" لمراقبة اتّصالات الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية، ويستخدم حاليًّا لمراقبة الاتّصالات في جميع أنحاءِ العالم، وأثناء (الحرب الأميركية على الإرهاب) ركَّزَ التحالف على شبكة الويب العالمية، وقد وصف المُتعاقد السابق معَ وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن العيون الخمس بأنَّها "منظَّمة استخبارات فوق وطنية لا تستجيب للقوانين المَعْروفَةِ لبلدانها"، وكشفت الوثائق التي سرّبها سنودن في 2013 أنَ مكتب التحقيقات الفيدراليّ يتجسس على المُواطنين ويُشارك المعلومات التي يجمعها معَ العيون الخمس للتحايل على اللوائح المحلية التقييدية المتعلّقة بمراقبة المواطنين.
2 - يضمّ التحالف دول أوروبا التابعة لأميركا وكذلك السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت والأردن ومشاركات من الدول العربية الأخرى الدائرة في الفلك الأميركي ودول آسيا التابعة لأميركا في مواجهة الصين ودول أفريقية منها نيجيريا والنيجر وتشاد وكلها موظفة في تموضعات أميركا في أوروبا وآسيا وقلب أفريقيا في منطقة الساحل والصحراء.
3 - التحالف يضمّ المنظمات الدولية التابعة والموظفة لدى أميركا وهي الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" والانتربول ومعهم جامعة الدول العربية!.
4 - التحالف بالطبع لا يضمّ القوى الحقيقية التي حاربت "داعش" والإرهاب وهي حركات المقاومة بداية من إيران ووصولًا للمقاومة العراقية وحزب الله والذي كان له اليد الطولى في محاربة التنظيم ودحره، بل يتعاطى مع المقاومة كحركات إرهابية!
الأهداف الخفية للتحالف:
وهناك أهداف مباشرة يحققها التحالف تمترسًا وراء أهدافه المعلنة بمكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار، ويمكن رصد أبرزها باختصار كالآتي:
أولًا: خلق مبررات وذرائع للتموضع العسكري وحرية القصف وتشكيل القواعد العسكرية.
ثانيًا: السيطرة على خطوط الإمداد اللوجستية لحصار المقاومة بدعوى أنها خطوط إمداد لوجستي للإرهاب، وكذلك السيطرة على المصارف والحسابات البنكية والتحويلات والسيطرة على حقول النفط ومصادر الثروات بدعوى عدم وصولها للإرهابيين واستخدامها كمصادر تمويل!
ثالثًا: حرية التجسس دون قيود قانونية ودون كلفة إبداء مبررات وتوفير الحرج على الدول المنضمّة لتوفير المعلومات والمشاركة في الرصد والتجسس.
رابعًا: وهو الأهم، وهو تدريب ودعم ميليشيات موالية ودعم أنظمة حكم بعينها باعتبارها متعاونة في مكافحة (الإرهاب) ومنضمة لـ"التحالف الأميركي".
والخلاصة، أن أميركا وظفت ولا تزال توظف حركات الإرهاب كترس في منظومة الهيمنة وكقواعد جيوإستراتيجية لمحاربة خصومها ولا تخجل من تحويل الإرهابيين إلى قادة دول ورفع أسمائهم من قوائم الإرهاب وتكريمهم واستقبالهم في البيت الأبيض، ولا تخجل من دعم ميليشيات تقوم بالذبح والقتل على الهوية بينما تلاحق سلاح حركات المقاومة التي تقاتل لتحرير الأرض ولا ترفع سلاحها لتهديد المدنيين، بل هي الحركات التي حاربت الإرهاب حصرًا دون ادعاءات زائفة وتحالفات كاذبة.