اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي لقاء تأبيني لشهداء مجزرة عين الحلوة في مخيم نهر البارد: دعوات للوحدة ودعم المقاومة

مقالات

البيت الذي صار ذاكرة.. من رماد التدمير تُولد سردية الخلود الفلسطيني
مقالات

البيت الذي صار ذاكرة.. من رماد التدمير تُولد سردية الخلود الفلسطيني

90

في قلب كل حرب استعمارية، ثمة شيء يتجاوز الرصاص والجرافات. إنها فلسفة السيطرة على الوعي ومحاولة صياغة العالم وفقًا لمنطق القوة، حيث يُعاد تعريف الإنسان، لا وفقًا لكرامته أو تاريخه، إنما نظرًا إلى موقعه في جغرافيا الاستعمار. 

في غزة، بلغ هذا المنطق ذروته مع ما يمكن تسميته بـ"فلسفة التدمير" التي يعتمدها الاحتلال الصهيوني، وهي ليست مجرد إستراتيجية عسكرية، بل عقيدة أيديولوجية متكاملة تستهدف الذاكرة قبل أن تصيب الجسد، وتطمح إلى إبادة المعنى ذاته قبل أن تُبيد الإنسان.

من هدم الحجر إلى اغتيال الذاكرة

حين يهدم الاحتلال بيتًا في غزة، فهو لا يزيل سقفًا وجدارًا، إنما يشنّ حربًا ضد فكرة الوجود الفلسطيني ذاتها. "البيت"، في المخيال الفلسطيني، ليس مأوى ماديًا فحسب، بل هو الذاكرة المادية للهُوية ومرآة الأسرة والمجتمع والمدينة التي تعكس التاريخ الجمعي. لذلك، فإنّ تدمير البيوت لا يُقرأ عسكريًا بقدر ما يُفهم بصفته مشروعًا لإبادة رمزية، هدفه قتل الذاكرة الجماعية وتفريغ الأرض من حكاياتها، وتحويل الفلسطيني من كائنٍ متجذر إلى لاجئ دائم، محكوم بالبحث الأبدي عن مأوى مؤقت.

يستدعي الاحتلال، في هذا السياق، تسويغات دينية وتاريخية تُلبس العنف ثوب القداسة، مستعينًا بنصوص توراتية عن "العماليق" وأوامر الإبادة الكاملة لكل ما يمثل الشر. هذه ليست مجرد استعارات دينية، هي إعادة تفعيل للأسطورة التأسيسية للكيان الصهيوني: "شعب مختار" يملك تفويضًا إلهيًا بتدمير "الآخر الشرير". وهكذا، يتحول التدمير إلى طقسٍ ليتورجي، يتعالى على الأخلاق والقانون، ويُعيد إنتاج المشروع الصهيوني بصفته مشروع خلاصٍ عنيفٍ في مواجهة “"الظلام العربي".

التكنولوجيا في خدمة العقيدة.. الروبوتات أدوات للقتل المقدّس

إن الجرافات من طراز D9 والطائرات دون طيار والروبوتات المفخخة ليست أدوات تقنية محايدة؛ إنّها تجسيد مادي للعقيدة الصهيونية في عصر التكنولوجيا. إذ حين تُدمَّر المدن بسرعة هندسية، وحين تتحول غزة إلى مساحة اختبارٍ للأسلحة الذكية، فيكون ما يجري تحالفًا بين العلم والعقيدة، بين المختبر العسكري والإيمان الديني بالتفوّق. هنا، تتخذ الحرب بعدًا "بيوتقنيًا"، أي محاولة لدمج التكنولوجيا بالسيطرة الأيديولوجية، فيصبح التدمير نفسه شكلًا من أشكال المعرفة التي تُنتج وتُسوَّق باسم "الأمن" و"الحداثة".
لكن هذا الادعاء الأمني لا يُخفي الهدف الحقيقي: تحويل الجغرافيا إلى جهاز مراقبة دائم، وإعادة هندسة المكان ليصبح أداة للهيمنة. إذ حين تُمحى الأحياء، وتُبنى المناطق العازلة، ويُعاد رسم حدود المخيمات، لا يكتفي الاحتلال بتغيير الخريطة، بل يُعيد ترتيب بنية السكان الاجتماعية والنفسية، ويحوّل غزة إلى مختبر اجتماعي للسيطرة من بُعد. إنها سياسة "التحكم في الفراغ": كل فراغٍ مادي يساوي مساحة جديدة للسيطرة.

التدمير أداة نفسية.. حين يتحوّل الخوف إلى سلاح إستراتيجي 

في حروب الاستعمار الكلاسيكية، كان الهدف هو السيطرة على الأرض، أما في المشروع الصهيوني الحديث، فالهدف هو السيطرة على الإدراك. التدمير ليس فقط ردًا على المقاومة، بل هو رسالة نفسية موجهة لكل فلسطيني مفادها: "لن يبقى لك مأوى". هذه الرسالة تُبنى على فهم عميق لطبيعة الصمود الفلسطيني، ولذلك يسعى الاحتلال إلى كسر الروابط العائلية، وإلى تحطيم المجال الخاص الذي يوفّر للإنسان الفلسطيني معنى الانتماء والأمان.

إن تدمير البيت، في وعي المحتل، يساوي قتل الروح. لكنه، paradoxically””، ينتج أثرًا معاكسًا: إذ يتحول الركام إلى مسرحٍ جديد للذاكرة، وتتحول الأنقاض إلى نصٍّ مفتوحٍ تُكتب عليه رواية البقاء. فحين يجلس الفلسطيني على حجارة بيته المهدّم، يحتفظ بالمفتاح والصورة، ويُعيد إنتاج الحكاية من جديد، مؤكدًا أن الذاكرة لا تُدفن تحت الأنقاض، بل تزدهر فوقها.

إعادة هندسة الجغرافيا والسكان.. الاحتلال بوصفه مشروعًا ديموغرافيًا

أحد أخطر أبعاد هذه الفلسفة التدميرية هو محاولة الاحتلال إعادة بناء خريطة غزة السكانية. إذ إن التدمير المنهجي للأحياء والمخيمات ليس عبثًا، بل هو جزء من مخطط لإفراغ المناطق الشرقية والشمالية من سكانها، وتحويلها إلى "مناطق عازلة" تحت السيطرة الأمنية "الإسرائيلية". بهذا، يتحول الدمار إلى أداة تخطيطٍ ديموغرافي، تُستخدم فيها الجرافة كقلمٍ يرسم الحدود، وتُحوَّل المدينة إلى فضاء هندسي يخضع لمعادلات الأمن لا الحياة.

هذه السياسة ليست جديدة، هي امتداد طبيعي للمنهج الاستيطاني الذي بدأ منذ نكبة العام 1948. الفرق الوحيد هو أن الاحتلال اليوم أكثر وعيًا بأدواته النفسية والإعلامية، فهو لا يكتفي بالتهجير، أيضًا يسعى إلى جعل الضحية تتبنّى روايته، فتقبل بالرحيل بوصفه قدرًا طبيعيًا لا قسرًا استعماريًا.

تفكيك الوعي المقاوم: من الأنفاق إلى المستشفيات

الاحتلال يدّعي أنه يدمّر البيوت؛ لأنها تُخفي "أنفاقًا" أو "بنى تحتية للمقاومة". هذا التسويغ ليس سوى إعادة إنتاجٍ للخطاب الكولونيالي التقليدي الذي يسوّغ العنف بذريعة "الحضارة مقابل الهمجية". كل بيت فلسطيني يصبح متهمًا، وكل طفلٍ يلهو بلعبته يصبح خطرًا أمنيًا. وحين دمّر الاحتلال مستشفى الشفاء بذريعة الأنفاق، لم يكن الهدف العسكري هو الأهم، بل تدمير المعنى الرمزي للملاذ الأخير؛ فالمستشفى هو المكان الذي يُرمَّم فيه الجسد المنكسر، وتدميره رسالة تقول: "حتى الطب لم يعد يحميكم". إنها عملية تفكيكٍ للوعي الجمعي، تُحوّل الفلسطيني من إنسانٍ له حق في الحياة إلى كائنٍ دائم الجرح.

مقاومة الذاكرة.. حين يتحوّل الركام إلى خطاب

على الرغم من هذا كله، لم تنجح فلسفة التدمير في تحقيق هدفها النهائي.. فكما فشلت مشاريع الإبادة كلها في التاريخ، في محو ذاكرة الشعوب الجمعية، فشل الاحتلال في إلغاء المعنى الفلسطيني للبيت. كل ركامٍ صار أرشيفًا، وكل صورةٍ على جدارٍ مهدّم صارت وثيقة هوية، وكل خيمةٍ نُصبت على الأرض صارت إعلانًا سياسيًا: "نحن هنا".

البيت الذي هُدم صار بيتًا رمزيًا أكبر، يسكنه الفلسطيني في ذاكرته ويورّثه لأبنائه، لا على شكل طوبٍ وإسمنت، بل على شكل سردية متوارثة، هي سردية الخلود.

إن المقاومة اليوم ليست فقط في إطلاق النار أو حفر الأنفاق، هي في التمسك بالذاكرة بوصفها فعلًا سياسيًا. إذ حين يحتفظ الفلسطيني بالمفتاح القديم، أو يكتب اسم مدينته على جدار الخيمة، فهو يمارس شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية التي تُبطل مفعول العنف الاستعماري. إنّها المقاومة بالزمن، لأن الزمن، في هذا السياق، يصبح أداةً للمواجهة: فالاحتلال مؤقت، والذاكرة دائمة.

المعنى الكوني لفلسطين.. من الضحية إلى المرآة العالمية

لقد نجح الفلسطينيون، على الرغم من الجراح، في تحويل مأساة التدمير إلى خطاب كوني للعدالة. ما يجري في غزة لم يعد شأنًا محليًا، لقد أضحى اختبارًا عالميًا للضمير الإنساني.. فمع فوز زهران ممداني وازدياد النقاشات الأكاديمية حول "الإبادة الجماعية"، تحولت السردية الفلسطينية إلى بوصلة العالم الأخلاقية... إنها تُعرّي نفاق الغرب، وتكشف زيف القيم التي تُغلف الهيمنة بالإنسانية، وتعيد تعريف معنى المقاومة في القرن الحادي والعشرين، ليس بوصفها فعلًا عسكريًا وحسب، إنما أيضًا بوصفها فعلًا معرفيًا ووجوديًا ضد منطق الإبادة.

نحو وعيٍ جديد.. حين يولد البيت من تحت الركام

من رماد التدمير تولد سردية الخلود. ليس لأن الفلسطيني يملك قدرة خارقة على التحمّل، بل لأنه يدرك جوهر الصراع: المعركة ليست على الأرض فقط، بل على الوعي والتاريخ والهوية. البيت الذي هُدم صار رمزًا للعالم كلّه، وصار يُذكّر الإنسانية بأن العدالة لا تُقاس بالمنتصرين في الحرب، بل بالذين ينهضون من تحت الركام ليكتبوا التاريخ من جديد.

لقد أراد الاحتلال أن يقتل الذاكرة، فصارت الذاكرة مقاومة. أراد أن يُبيد الشعب، فحوّل كل بيتٍ إلى شهادة. أراد أن يجعل غزة أطلالًا بلا روح، فإذا بها تتحول إلى نصٍّ خالدٍ في وجدان الإنسانية، يؤكد أن البيت الفلسطيني، وإن هُدم، لا يموت… بل يولد من جديد، كما تولد العنقاء من رمادها.

الكلمات المفتاحية
مشاركة