خاص العهد
العمّال اللبنانيون رهائن الانهيار والشلّل القضائي
شلل العدالة العمالية في لبنان: حقوق معلّقة وأزمة بلا أفق
يواجه لبنان اليوم أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فيما يبقى الحق في العدالة العمالية حبيس النصوص والقوانين، من دون ترجمة فعلية على أرض الواقع. فمنذ ربيع عام 2023، توقّفت مجالس العمل التحكيمية عن العمل في معظم المحافظات اللبنانية نتيجة إضرابات متتالية وأزمات بنيوية داخل الجهاز القضائي، الأمر الذي وضع العمال في مواجهة مباشرة مع التعسّف، من دون أي وسيلة فعلية للطعن بقرارات الصرف أو الانتهاكات التي تطاول حقوقهم الأساسية. وتشير دراسة حقوقية إلى أنّ أكثر من 60% من الشكاوى المقدّمة منذ عام 2017 لم تُحسم حتّى اليوم، ما يعني أنّ آلاف العمال يعيشون في دوّامة انتظار مفتوحة، قد لا تنتهي، وسط انهيار اقتصادي يلتهم قيمة التعويضات ويقوّض أبسط مقوّمات العيش الكريم.
الأزمة بدأت حين توقف مفوضو الحكومة عن حضور جلسات المجالس احتجاجًا على تدني بدلات الحضور بعد انهيار الليرة، قبل أن ينضم إليهم ممثلو العمال وأصحاب العمل، ليصبح التعطيل شبه شامل للمحاكم العمالية. وفي ظل هذا الواقع، يجد العامل اللبناني نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: القبول بتسوية أقل من حقه أو انتظار سنوات بلا جدوى في أدراج الشكاوى.
في هذا السياق، يؤكد عضو لجنة العمل والشؤون الاجتماعية النائب ميشال موسى، في حديث لموقع "العهد" الإخباري، أنّه "مؤسف أن يكون هناك انقطاع لعمل محاكم المجلس التحكيمي بشكل روتيني، أيًّا تكن أسبابه، لأن مجلس العمل التحكيمي، عدا عن دوره في إقرار التعويضات، هو أيضًا محكمة صلح بين أرباب العمل والأجراء". ويشير إلى أنّ المجلس غالبًا ما يلعب دورًا أساسيًا في حلّ النزاعات ومحاولة التوفيق بين الطرفين، سواء في حالات الخلاف على شروط العمل أو عند ترك الوظيفة، بما يضمن إقرار حقوق العامل.
ويشدّد موسى على أنّ تعطيل هذا الدور يخلّف خسارة كبيرة، لافتًا إلى أنّ مرسومًا صدر عن مجلس الوزراء مؤخّرًا من المفترض أن يعيد انتظام العمل، إلا أنّ الإشكالية تبقى قائمة بالنسبة للأشخاص الذين فقدوا تعويضاتهم أو حصلوا على تعويضات لا تعكس قيمتها الفعلية. ويوضح أنّ احتساب التعويضات اليوم، سواء للمتقاعدين عبر الضمان الاجتماعي أو للعاملين الذين خرجوا من مؤسساتهم، يصطدم بمشكلة سعر الصرف، ما يستدعي حلولًا تشريعية شاملة.
ويضيف أنّ اقتراحات القوانين المتعلّقة بهذا الملف مطروحة حاليًّا في مجلس النواب وتُناقش في اللجان، بهدف معالجة الخلل وتعويض المتضررين، معتبرًا أنّ من حق كلّ من صُرف من عمله المطالبة بتعويض عادل يتناسب مع سعر الصرف، إلا أنّ ذلك يتطلّب إطارًا قانونيًا واضحًا، وهو ما تعمل عليه اللجان النيابية حاليًا، على أمل أن تُستأنف أعمال مجالس العمل التحكيمية في القريب العاجل.
مجالس العمل التحكيمية أمام مسؤولية كبرى
من جهته، يلفت رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، في حديث لـ "العهد"، إلى أنّ مجلس العمل التحكيمي معطّل فعليًا منذ سنوات، حتّى قبل عام 2023، مشيرًا إلى أنّ التعطيل بدأ منذ عام 2019، مرورًا بأحداث "الثورة"، ووباء كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، وصولًا إلى الانهيار الاقتصادي الكبير. ويذكّر بأن بدل الحضور لأعضاء المجلس كان لا يتجاوز 100 ألف ليرة، أي ما يعادل دولارًا واحدًا، ما جعل الاستمرار في العمل شبه مستحيل.
ويؤكد الأسمر أنّ الاتحاد العمالي العام سعى، رغم كلّ الظروف، إلى إعادة تأليف هذه المجالس، فسمّى مندوبيه، الذين يبلغ عددهم نحو 46 بين أصيل ورديف، ويعمل حاليًّا على تنظيم دورات تدريبية لهم في قوانين العمل والضمان والتجارة والموجبات والعقود، بهدف تأهيلهم بشكل كافٍ، لا سيما في ظل تراكم آلاف القضايا العالقة منذ ما قبل عام 2019.
ويحمّل الأسمر مجالس العمل التحكيمية مسؤولية كبرى في المرحلة المقبلة، خصوصًا في ما يتعلق بإعادة تقييم التعويضات، معتبرًا أنّ التعويضات التي كانت تُقرّ قبل أو خلال فترة الانهيار لم تعد تساوي شيئًا مقارنة بحجم الأزمة، ما يجعل إعادة التقييم ضرورة ملحّة تأخذ في الاعتبار الانهيار الاقتصادي الخانق.
أما بالنسبة للأجراء الذين تركوا أعمالهم ووقّعوا براءة ذمة مقابل جزء يسير من حقوقهم، فيوضح الأسمر أنّ هذا الملف لا يدخل ضمن صلاحيات مجلس العمل التحكيمي، بل يتطلّب عملًا مشتركًا بين الاتحاد العمالي العام والدولة. ويكشف عن مشروع قانون قُدّم بالشراكة مع الوزير فيصل كرامي وعدد من النواب، وبمساندة النائب بلال عبد الله، لتعويض المتضررين الذين تركوا أعمالهم بين عامي 2019 و2024، بعدما باتت تعويضاتهم بلا قيمة فعلية.
ويختم الأسمر بالإشارة إلى أنّ مجالس العمل التحكيمية ستباشر عملها فور صدور المرسوم المتعلّق بتعيين القضاة، معربًا عن الأمل في تسريع عقد الجلسات، نظرًا لوجود آلاف الشكاوى المتراكمة. كما يدعو إلى إنصاف أعضاء المجالس عبر إقرار بدلات عادلة تمكّنهم من أداء مهامهم، خصوصًا أنّ عددهم 23 عضوًا أصيلًا يقابلهم 23 عضوًا رديفًا، وهم يتحمّلون مسؤوليات كبيرة تتعلق بدراسة الملفات وحضور الجلسات، في عمل شاق لا يمكن الاستمرار فيه من دون الحد الأدنى من الحقوق.