مقالات

في أعقاب مصادقة "الكابينيت" على توسيع الحرب على قطاع غزة، وما يشمله من احتلال للمزيد من المناطق والبقاء فيها، واستدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط لهذه العملية الموسعة، صرح نتنياهو بأن الجيش لن ينسحب من مناطق يدخل إليها. وقال "بتسلئيل سموتريتش": "إننا لم نكن ندخل غز حتى نخرج منها، وهو ما يوفر شواهد إضافية لخطط أوسع تتعلق بالإقليم وبمشروع "جيو- استراتيجي" و"جيو-اقتصادي" أميركي صهيوني، تتزامن معه تسريبات بخصوص قناة السويس وقواعد أمريكية في جزيرتي تيران وصنافير.
إذ نقلت، مؤخرًا، وسائل إعلام لها موثوقة، عن مصادر رسمية مصرية، أن المملكة السعودية عرضت على الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية في جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين عند مدخل خليج العقبة، في إطار مقترح أميركي يهدف إلى توسيع النفوذ العسكري في البحر الأحمر. وهو عرض يتزامن مع تصريحات مريبة للرئيس ترامب تدعي أن اميركا تحمي قناة السويس؛ فيحق لها المرور مجانًا من دون رسوم، وهو تزامن يوحي بأن تصريحات ترامب تأتي في سياق التهديد لقناة السويس، وليس مجرد ابتزاز.
يكتمل مشهد التهديد، هنا إذا، ما رُبط بالأحداث في مشروع قناة "بن غوريون"، والتي يوفر احتلال غزة لها حظًا وافرًا للتنفيذ بسبب تقليل الكلفة وسهولة وسرعة شقها، والذي تعطل كثيرًا بسبب وجود مقاومة في غزة يمكنها تهديد القناة وإغلاقها، وبسبب طرقها الالتفافية للوصول إلى عسقلان؛ وهذا ما يشكل كلفة كبيرة وصعوبات جغرافية.
في هذا الصدد؛ نحن أمام مشهد متكامل من التهديد لدول المنطقة كافة، ومنها ما يعرف بمحور "الاعتدال"، وأكبر المهددين هي مصر وأمنها القومي، سواء عبر الانكشاف الاستراتيجي لسيناء أم عبر الانكشاف الاقتصادي بسلبها أهم شريان للعملة الأجنبية، وقطع الطريق عن مشروعاتها الاستثمارية، وسلبها أوراق القوة والردع كافة.
هذه الأمور بحاجة إلى بعض التفاصيل؛ لبيان مدى جدية المشهد الراهن وخطورته:
أولاً- بخصوص جدية احتلال غزة
يصعب تصور هذا الحشد الصهيوني، وهذا الغطاء الأميركي الشامل للغطاء العسكري والسياسي والاقتصادي، وحتى والتدخل الفعلي عسكريًا بالعدوان على اليمن والتهديد لإيران، أنه مجرد ضغط سياسي لتحرير الأسرى، أو للضغط على تخلي المقاومة عن الحكم في غزة؛ بل هو مشهد تصفية وتطهير عرقي وتهجير تحت مرأى العالم ومسمعه والمؤسسات الأممية. تاليًا؛ إن العائق الوحيد هو صمود المقاومة في غزة وجبهات الإسناد النشطة؛ مثل اليمن، والصابرة والمنتظرة للأوامر مثل لبنان.
لكن فعليًا ينفّذ مشروع التهجير والقتل والإبادة وتوسيع الكيان لمناطق سيطرته مستغلاً الظرف السوري، والصمت والعجز والتخاذل العربي الرسمي. وهذا الاحتلال لن يكون مجرد احتلال استيطاني، المخطط هو أن يكون احتلالاً للثروات، وعلى رأسها آبار الغاز في حقل غزة مارين، وتنفيذ حلم الكيان منذ الستينيات بشق قناة "بن غوريون" لإنهاء مشروع قناة السويس، في جوانبه الاستراتيجية والاقتصادية.
ثانيًا- قناة "بن غوريون" والممر الهندي
مشروع قناة "بن غوريون" هو مشروع أميركي بامتياز؛ لأن أميركا لا ترغب في ممرات دولية مشتركة ومتوازنة بين أطراف الصراع الدولي، بل ترغب في ممرات تخضع بالكامل للسيطرة الأمريكية. واللافت أن الولايات المتحدة درست اقتراحًا، في العام 1963، باستخدام 520 قنبلة نووية لصنع بديل لقناة السويس يمر عبر "إسرائيل" ، وفقا لما نشرته صحيفة "بيزنس إنسايدر"، نقلاً عن مذكرة رفعت عنها السرية في العام 1996. ومشروع قناة بديلة عن قناة السويس يكفل لأميركا الربط مع مشروع الممر الهندي لتحويل مجرى الاقتصاد العالمي، من الهند إلى أوروبا، بعيدًا عن الممر الصيني. وهذا ما أكدته تصريحات سابقة لنتنياهو؛ أوضح فيها أن "إسرائيل" في محور مشروع دولي غير مسبوق سيربط البنية التحتية من آسيا إلى أوروبا، وأن الممر الجديد "سيؤتى ثماره لرؤية طويلة الأمد ستغير وجه الشرق الأوسط و"إسرائيل".
إزاء ذلك؛ يكفي معرفة أن التجارة بين الهند وأوروبا اعتمدت، بشكل كبير، على قناة السويس، ولكن بعد استحواذ "كونسورتيوم" بقيادة "مجموعة أداني" الهندية على ميناء حيفا، ثاني أكبر ميناء في"اسرائيل". إذ المخطط هو تحويل حيفا إلى منشأة عالمية المستوى، يمكن أن تكون طريقًا بديلاً، إلى جانب تحدي بصمة الصين المتنامية في المنطقة.
بالعودة إلى تفجير مرفأ بيروت؛ يكتمل المشهد لبتضح مسار الخطط الصهيونية والأميركية في تخريب المرافئ، والتي تمثل مشتركات لجميع الأطراف، وتطوير المشروعات التي تخدم الأجندة الاقتصادية الأمريكية وحلفاءها حصرًا. وهنا؛ يتمثل البديل الاقتصادي الأساسي لقناة السويس في إنشاء قناة "بن غوريون"، بين إيلات والبحر الأبيض المتوسط، ما يستوجب الاستيلاء على قطاع غزة كاملاً، لأن أرض غزة فقط هي التي تسمح بحفر القناة بخلاف أراضي المنطقة الصخرية الأخرى.
ثالثًا- القواعد الأمريكية في تيران وصنافير
تزامن تسريب الأخبار عن اتفاق سعودي- أميركي في إقامة قواعد عسكرية في تيران وصنافير، والتي تنازلت مصر عنها على الرغم من الاعتراضات الشعبية وأحكام القضاء المصري ببطلان التنازل عنها، مع الإعداد لزيارة ترامب إلى السعودية في أيار/مايو الجاري. وتزامنت، أيضا، مع تصريحات وقحة لترامب تدعي أن أميركا تحمي القناة؛ فيحق العبور المجاني للسفن العسكرية والتجارية.
يمكن أن يفهم التصريح أنه تهديد بالربط مع سياق الإعلان عن بدء مفاوضات استثمارية ضخمة لمصر مع الصين، وكذلك تنفيذ أول مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين المصري والصيني تحت اسم "نسور الحضارة". ومصدر التهديد هنا نابع من أن قناة السويس، بالنسبة إلى أميركا، ليست مجرد ممر مائي، بل ركيزة استراتيجية في أي خطط تمتد من المتوسط إلى الخليج، وتاليًا التلويح بقواعد أمريكية تشرف على سيناء والعقبة هو تهديد مزدوج لمصر، حيث يعني في جانب منه تهديدًا للقناة، وفي الجانب الآخر حماية ودعمًا لإنشاء القناة البديلة.
لقد حدثت تسريبات إعلامية تؤكد هذه الفكرة، فقد نقل عن مسؤولين أوروبيين ومصريين وإقليميين أن ما تريده واشنطن وتناقشه مع حلفائها الإقليميين هو تغيير جذري في منظومة الأمن في البحر الأحمر، ما يضعها في طليعة القوى المراقبة للممر البحري. وممّا لا شك فيه أن تنازل مصر عن الجزيرتين أفقدها ورقة إغلاق الملاحة في وجه السفن الإسرائيلية في حال أي حرب يمكن أن يشنها الكيان الصهيوني على مصر، لأنه بموجب التنازل أصبح ممرًا دوليًا، وأصبح إغلاقه في حال الحرب عدوانًا بعد أن كان حقًا مكفولاً لمصر.
هذا يعني أن "إسرائيل" لو تمادت في عدوانها ومخطط التهجير، واندلع بسبب إصرارها أي اشتباك مع مصر، فإن أوراق القوة المصرية تراجعت، والأخطر أن أميركا راعي الكيان قد تتمركز على حدود سيناء لتشرف على مخطط التهجير، وربما على العدوان على سيناء.
مما لا شك فيه أنها مخططات كابوسية؛ ولعل مصر تفطن حاليًا إلى الخطأ التاريخي بتنازلها عن دورها في الصراع وتخليها عن المقاومة، وما تبعه من تفريط في أوراق القوة والدخول إلى هذا المنزلق من الانكشاف الاستراتيجي.. ولكن؛ ربما هناك مجال للعودة واللحاق بالبقية الباقية من الأمن القومي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، شريطة توفر الإرادة السياسية واتباع خطوات استراتيجية حقيقية، لا مناورات شكلية لتحسين شروط التبعية.