نقاط على الحروف

طوال الأشهر الماضية، لم يوفّر إعلام "خدّام إسرائيل" جهدًا في صناعة التّهويل. آلة إعلامية هائلة تعمل على مدار السّاعة وعلى مختلف المستويات بهدف تحقيق ما عجزت عنه آلة الحرب: بثّ روح الهزيمة في مجتمع ليس يُهزم، عبر استهداف إرادة القتال لديه، واعتماد التهديد والترهيب ضدّه. منابر سياسية ما عاد أهلها يستحون من المجاهرة بهواها الصهيوني، صحف أشبه بمناشير حربية، برامج تلفزيونية وإذاعية تبثّ السّمّ حتّى من دون جهدِ دسّه في العسل، سياسات تحرير إخباري تخضع للتعليمات العوكرية من دون نقاش أو حتّى مداراة وتجميل، منصّات إعلامية إلكترونية تستخدم أحقر ما يُمكن من أساليب التّضليل والتهويل والتسويق للخيانة، وجوه إعلامية امتهنت العداء للمقاومة وباتت تعتاش من معلف خدمة الدعاية الصهيونية، وأحيانًا تقوم بإسداء خدمات مجانية للعدو "نكاية بالطّهارة".
على مستوى الصحافة المكتوبة، برزت صحيفتا "نداء الوطن" و"النهار" كطرف ما عاد يحتاج ادّعاء الحياد الزائف: تموضع تام في معسكر العداء للمقاومة، مع استقواء واضح بوهم المقدّرات الأميركية و"الإسرائيلية" التي حتمًا ستزيل المقاومة وأهلها من الوجود. عشرات المقالات والتقارير في الصحيفتين وعلى مدار شهور، تحدّثت عن اقتراب موعد إعدام المقاومة. من يتابعهما يظنّ أنّ ثمّة ساعات عدّ عكسيّ في مكاتبهما تبشّر باقتراب لحظة سيقوم فيها الصهاينة بشنّ هجوم يقتلع كلّ ما يمتّ إلى المقاومة بصلة. وفي السّياق نفسه، لم تتأخرا عن كلّ ما يخدم هذا الهدف ولو بشكل غير مباشر: تقديم الأميركي كإله لا يمكن لأحد أن يواجه إرادته، استهداف ثقافة المقاومة وعقيدتها وهويتها وليس فقط منظومتها المسلّحة، تغريب أهل المقاومة واتّهامهم في وطنيّتهم وجذورهم التاريخية، والشّماتة بجراحهم والتقليل من تضحياتهم... عناوين ومانشيتات حدّثت عن اقتراب النهاية، والتي لمّح كثيرون أنّ موعدها أيلول: ولعلّ من هولِ لهفتهم ما استطاعوا إلى ستر اصطفافهم غير المشرّف هذا سبيلًا.
أما على مستوى الإعلام المرئي، فقد كرّست القنوات التلفزيونية العاملة في فلك "عوكر" وفي مقدّمتها MTV هواءها لتحقيق غايات في نفس العِدا: استضافات ومقابلات وتقارير مصوّرة وبالمئات تعمل على إبراز كلّ الوجوه المعادية للمقاومة، من الصفّ الأوّل إلى العاشر: كلّ من يُتوّقع منه حديث ناريّ ضدّ المقاومة هو ضيفٌ مكرّم في استديوهات تعمل بالوقود العوكري. كلّ من يمتلك أو لا يمتلك صفة أكاديمية أو خبرة نوعية في ميدان السياسة والعسكر والاقتصاد يجد له هناك كرسيًّا يجلس عليه وينطق بكلّ ما يمكن أن يشكّل إساءة للمقاومة من جهة، ويوجّه لها تهديدًا من جهة أخرى. هذه القنوات لم توفّر حتّى "البصّارين" والمشعوذين فاستضافتهم كي تبلغ أهل المقاومة عبرهم أنّ "إسرائيل" وأميركا ستقومان بتوجيه الضربات القاتلة في وقت قريب. مرّ الوقت، وتكشّفت حقيقة العجز الأميركي و"الإسرائيلي" عن حسم الأمور بالضربات العسكرية.. مرّ الوقت، ولم يُجدِ التهديد المقترن ببعض الترغيب نفعًا: مختصر ساعات البثّ الطويلة المتواصلة هذه كان "سلّموا سلاحكم كي لا تُقتلوا.. سلّموه برضاكم قبل أن يرغمكم الأميركي على ذلك بالنّار وبالدم.". مرّ الوقت ولم يفهم هؤلاء أنّ "أبالموتِ تهدّدني" هي نهج حياة الشرفاء، وأنّ المغريات مهما كثرت والتهديدات مهما تعاظمت لن تدفعهم إلى "استبدال سلاحهم" برغيف الخبز، أو بإعادة إعمار البيوت، أو حتّى بالبقاء على قيد الحياة! وفوق ذلك كلّه، عمدت محطة الجديد إلى استضافة المُدان محيي الدين حسنة والذي لعب دورًا في جريمة البايجرز كي يبرّىء نفسه! وكأن الرسالة كانت "نحن نكرّم قاتلكم! قتلكم لم يعد جريمة!".
على منصّات التواصل كما على منصّات السياسة، لم يفلح الناطقون والمؤثرون والناشطون في تحقيق الهدف العوكريَ، لكنّهم لم يستسلموا للفشل ولم يتعلّموا من الخيبات المتلاحقة: أصرّوا على مواصلة السّير في خطّ العداء للأرض وللنّاس، تماهيًا مع أوامر مشغّليهم: هدّد المدعو إبراهيم الصّقر أهل المقاومة "برينجر أميركي سوف يدوسهم!" وحسبت بولا يعقوبيان عقيدتهم خطرًا قاتلًا يهدّد البلد! طالب بيتر جرمانوس السفارة الأميركية بتعديل قانون الانتخابات في لبنان! وقف سمير جعجع مخاطبًا الشيعة بلغة الوعيد الممتزج بالدعوة للاستسلام لأن ما سواه سيكون انتحارًا! استشاط شارل جبور غضبًا وحقدًا وهو يهدّد ويتوعّد أهل المقاومة وينذرهم بقرب نهايتهم!، تحدّث البعض عن التطبيع و"السلام" مع "إسرائيل" كمسار حتميّ لن يقوى على إيقافه أحد!، تفاخر البعض بالشماتة بالجرحى وبالجراح!، تداعى البعض إلى لقاءات فتنوية تؤسّس لاصطفاف مذهبيّ وطائفيّ ضدّ المقاومة وأهلها!، تطول لائحة ارتكابات كان من المفترض أن يُحاكَم عليها أصحابها كجرائم مشهودة بحقّ الإنسانية والأرض.
كلّ هذه السيول الإعلامية والكلامية التي ما انفكت تتلو الوعيد تلو الوعيد، وتضع مواقيت ساعات الصفر للهجوم على المقاومة، وتتنبّأ بنكبات ومصائب سيرتكبها الأميركي بحقّ كلّ من قال "لا"، لم تفلح في اقتلاع ذرّة واحدة من يقين الناس بالمقاومة وجدواها..، وكلّها لم يستطع العدوّ ترجمتها حتّى بدا أنّ النّاطقين باسمه، خُدّامه، يهدّدون بسيف يعرفون أنّه منكسر عاجز، كلواء "غولاني" في شمع، كنخبة النخبة في مواجهات عيترون.. كآلة الحرب التي عجزت عن تثبيت نقطة واحدة لها في قرى الحافّة طوال ٦٦ يومًا.
"خُدّام إسرائيل"، الذين يتفانون في أداء مهامهم على أكمل وجه، فاتهم أنّ اصبع الخيانة لا يحجب شمس الفداء، وفاتهم أنّ دم المقاومة الذي سقى هذه الأرض شرفًا وعزّة سيظلّ يجري في عروق الأحرار، وأنّ العبيد عاجلًا أم آجلًا، لن يجدوا لهم مكانًا في الطائرات الأميركية المغادرة، ولن يُتاح لهم التعلّق بعجلاتها حتّى، والمشهد من أفغانستان لم يغب بعد من الذاكرة!