اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي عزّ الدين: مقاومة الدفاع عن الوطن والأهل والشعب لن تنكسر

مقالات

من الطوق الناري إلى التهجير: كيف يمهّد الاحتلال لاحتلال غزّة والمقاومة تترقب
مقالات

من الطوق الناري إلى التهجير: كيف يمهّد الاحتلال لاحتلال غزّة والمقاومة تترقب

123

منذ ما يقارب عامين، تشنّ "إسرائيل" حرب إبادة جماعية غير مسبوقة على قطاع غزّة، حربًا ليست مجرد عملية عسكرية محدودة أو ردًا على هجوم مفاجئ، بل هي مشروع إستراتيجي متكامل يهدف إلى إعادة صياغة الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية وفق مقاييس الاستعمار الاستيطاني. وفي قلب هذه الإستراتيجية، تحتلّ مدينة غزّة موقعًا رمزيًا وميدانيًا أساسيًا، بحيث تسعى "إسرائيل"، عبر عملية "عربات جدعون 2"، إلى تحويلها إلى أنقاض فارغة من سكانها، مقدمةً نموذجًا جديدًا في حروب التهجير الحديثة: حرب تبدأ بالطوق الناري، وتنتهي بالتفريغ البشري الشامل.

لكن خلف هذا المشهد الدموي الذي يقدَّم بلسان "الناطق العسكري الإسرائيلي" باعتباره "عمليات عسكرية ضرورية"، يكمن نظام دولي يتواطأ بالصمت أو المشاركة، وتتحرك فيه واشنطن كراعٍ سياسي وعسكري مباشر. فما يجري في غزّة ليس استثناءً، بل هو امتداد لنمط تاريخي من الحروب التي يقودها الغرب أو يباركها، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، مرورًا بيوغسلافيا وليبيا.

الطوق الناري: الإبادة كمرحلة تمهيدية

المرحلة الأولى من الهجوم على غزّة لم تكن تقدمًا بريًا منظمًا، بل قصفًا شاملًا ومكثفًا شمل كلّ أحياء المدينة تقريبًا: الزيتون، الصبرة، الشجاعية، الشيخ رضوان، الدرج، التفاح، تل الهوا، وحتّى الشاطئ. الهدف المباشر لم يكن "تحييد المقاومة" كما يزعم الاحتلال، بل فرض طوق ناري يمنع الحركة ويجبر المدنيين على النزوح.

إن هذه الإستراتيجية ليست جديدة؛ هي ذاتها التي استخدمها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والولايات المتحدة في فيتنام، و"إسرائيل" نفسها في جنوب لبنان. قصف شامل، يليه نزوح قسري، ثمّ سيطرة برية بطيئة على مساحات خالية. لكن في غزّة، حيث الكثافة السكانية هي الأعلى في العالم، يتحول القصف إلى أداة إبادة جماعية، لا مجرد وسيلة ضغط.
الأرقام تكشف حقيقة النوايا: أكثر من 65 ألف شهيد، 165 ألف جريح جلهم من الأطفال والنساء، ومئات الآلاف من النازحين الذين يهربون من مدينة تحوّلت إلى جحيم من الركام. هذه ليست "أضرارًا جانبية" كما يصفها الخطاب الغربي، بل هي هدف في حد ذاته: إفراغ غزّة من سكانها.

بطء التقدم البري: خوف الاحتلال وحسابات المقاومة

منذ بدء العملية البرية، لم يسجل أي اختراق حقيقي لجيش الاحتلال في عمق مدينة غزّة. الآليات تتمركز عند ثلاث جبهات رئيسية: شمال غربي المدينة (السودانية والتوام)، شمالها الشرقي (الشيخ رضوان والصفطاوي)، وجنوبها (تل الهوا والكلية الجامعية). لكنّها لم تتجاوز حتّى الآن الخطوط الأولى.

هذا البطء لا يعكس "حكمة عسكرية"، بل أزمة وجودية يعيشها "الجيش الإسرائيلي". فالمقاومة لم ترد بعد، ليس لأنها غائبة، بل لأنها تترقب لحظة الاشتباك المناسبة. في هذه الأثناء، يتصرف الاحتلال وكأنه يقاتل "أشباحًا": يقصف أبراجًا خاوية ويهدم مربعات سكنية فارغة، فيما يخشى على جنوده من أي كمين أو عملية أسر.

هذا الخوف "الإسرائيلي" مشروع؛ فالمقاومة الفلسطينية تمتلك خبرة طويلة في حروب المدن، من الشجاعية إلى بيت حانون. وكلّ محاولة توغل قد تتحول إلى كارثة ميدانية، كما حدث في تجارب سابقة عندما دُمّرت دبابات "الميركافا" وأُسر جنود في عمليات نوعية. ولذلك، يفضّل الجيش سياسة "الأرض المحروقة" قبل أن يغامر بالتقدم.

التهجير القسري: جوهر الإستراتيجية

إن الهدف الرئيسي من هذه العملية هو تهجير كلّ سكان شمال القطاع، من محور "نتساريم" حتّى بيت حانون وبيت لاهيا. نحن نتحدث عن شريط لا يتجاوز طوله 10 إلى 12 كيلومترًا، لكنّه يمثل العمود الفقري لقطاع غزّة. السيطرة عليه تعني عزل الشمال عن الجنوب وتحويل غزّة إلى جيوب محاصرة قابلة للتفكيك.

هذا المخطّط يكرّر بدقة ما فعلته "إسرائيل" في النكبة عام 1948 وفي النكسة عام 1967: التهجير كأداة مركزية لبناء "إسرائيل الكبرى". الجديد اليوم أن العملية تتم في ظل تواطؤ عالمي كامل وتظهر الطوابير الطويلة للنازحين على شاشات التلفزة، "وجوههم متعبة، وأصواتهم تتردّد: نحن لا نعلم إلى أين نذهب"، بينما تُختزل في الخطاب الغربي تحت عنوان "المساعدات الإنسانية" التي تُلقى من الطائرات وكأنها أوراق دعائية.

لكن التهجير ليس مجرد وسيلة؛ هو الغاية بحد ذاتها. "فـ"إسرائيل" لا تسعى فقط لتدمير منازل الفلسطينيين، بل لإعادة تشكيل الخريطة السكانية بما يتيح إقامة مستوطنات جديدة مكان الأحياء المدمرة. وهنا يصبح التهجير حلقة في مشروع استعماري استيطاني طويل الأمد.

نتنياهو وصورة النصر المستحيلة

القائد السابق لفرقة غزّة في "الجيش الإسرائيلي"، يسرائيل زيف، صرّح بأن نتنياهو يبحث عن "صورة نصر غير موجودة". هذا التصريح يعكس أزمة "القيادة "الإسرائيلية": فالحرب، رغم كلّ حجم الدمار والقتل، لم تحقق أي هدف سياسي أو عسكري.

نتنياهو، المطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية، يقدّم نفسه كـ"رجل أمن" يحمي "إسرائيل"، بينما يقودها عمليًا إلى عزلة دولية وانهيار أخلاقي. إعلانه الأخير عن تحويل "إسرائيل" إلى "مدينة إسبرطة" وأننا في حالة "عزلة" هو اعتراف ضمني بأنه يجرّ "المجتمع الإسرائيلي" إلى حالة حرب دائمة، قائمة على العسكرة والانغلاق الاقتصادي. إنها ليست سياسة دفاعية، بل وصفة لانتحار طويل الأمد.

إنه نموذج "القائد الذي يهرب إلى الأمام": يضحي بجنوده، يقتل المدنيين، يهدّد مستقبل أجيال كاملة من الإسرائيليين، وكلّ  ذلك من أجل بقائه في الحكم وتجنّب السقوط أمام المحاكم.

الغرب وشراكة الجريمة

ما كان لهذه الحرب أن تستمر يومًا واحدًا لولا الدعم الأميركي المطلق. واشنطن لا تكتفي بتزويد "إسرائيل" بالسلاح والذخيرة، بل تغطيها دبلوماسيًا في مجلس الأمن وتقدّم لها المبررات الأخلاقية. وهنا تكمن المعضلة الكبرى: إن ما يحدث في غزّة لا يفضح "إسرائيل" وحدها، بل يفضح النظام العالمي الذي يقوده الغرب.

الصمت الأوروبي، والاكتفاء ببيانات إنسانية خجولة، يكشف أن "القيم الديمقراطية" ليست سوى غطاء أيديولوجي. فحين يتعلق الأمر بفلسطين، تختفي مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الدولية، ويحل محلها منطق القوّة العارية.

هذه الحرب، إذًا، ليست فقط حرب "إسرائيل" على غزّة؛ إنها حرب الغرب الرسمي على فكرة الحرية في العالم الثالث. تمامًا كما كانت في الجزائر وفيتنام والعراق.

المقاومة: الترقب كخيار إستراتيجي

اللافت أن المقاومة الفلسطينية لم تدخل بعد بثقلها في مواجهة الاجتياح البري. هذا التريث ليس ضعفًا، بل هي تكتيك محسوب. فالاشتباك المبكر قد يستهلك القدرات في معارك جانبية، بينما الهدف الحقيقي هو استنزاف الاحتلال على المدى الطويل.

المقاومة تراهن على عاملين: أولهما هشاشة "الجيش الإسرائيلي" الذي يعاني نقصًا في الجنود والمعدات (30% من القوّة المطلوبة غير متوفرة). وثانيهما الانقسام الداخلي في "إسرائيل" بين قيادة سياسية تبحث عن نصر إعلامي وقيادة عسكرية تدرك استحالة ذلك.
في هذه المعادلة، يصبح الزمن في صالح المقاومة. فكلّ  يوم يمر بلا "نصر إسرائيلي" هو يوم إضافي يكشف عجز الاحتلال ويعمّق أزمته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي.

غزّة كرمز عالمي

ما يجري في غزّة اليوم ليس مجرد فصل في الصراع "الفلسطيني الإسرائيلي"، بل لحظة كاشفة لطبيعة النظام الدولي كله. من الطوق الناري إلى التهجير، من البحث عن صورة نصر إلى الانخراط في إبادة جماعية، تتجلى أمامنا صورة استعمارية كلاسيكية يُعاد إنتاجها في القرن الحادي والعشرين تحت غطاء "الأمن" و"مكافحة الإرهاب".

لكن كما علمنا التاريخ، فإن الشعوب التي تُحاصر وتُهجّر لا تُمحى من الوجود. غزّة، التي قاومت على مدى عقود رغم كلّ الحروب والحصار، ليست مجرد جغرافيا، بل رمز لإرادة الصمود. والمقاومة التي تترقب اليوم، ستجد لحظتها المناسبة لتكتب فصلًا جديدًا في سجل المواجهة.

في النهاية، قد تنجح "إسرائيل" في تدمير المدينة كاملًا، لكن ما لن تستطيع فعله هو محو القضية. فغزّة، بدمها وركامها وناسها، ستظل المرآة التي تعكس عجز الغرب الأخلاقي.

الكلمات المفتاحية
مشاركة