مقالات

يتخبط النظام الاقتصادي العالمي فيعود الذهب ليتربع على عرش الأسواق المالية بوصفه الأصل الأكثر جذبًا للاستثمار والملاذ الآمن للمستثمرين والمصارف المركزية. فقد قفز سعر الذهب بنسبة 53% هذا العام وحده، متجاوزًا بكثير مكاسب مؤشر ستاندرد آند بورز 500 البالغة 15% خلال الفترة نفسها. فالتوقع العالمي لأسعار الذهب هو الاستمرار بالارتفاع وتحقيق قمم أعلى عام 2026، وإن صحح سعره أو انخفض في المدى القصير سيستمر بالارتفاع في المدى المتوسط. ويعود ذلك لعوامل اقتصادية مرتبطة بالاقتصاد الأميركي الداخلي، الاقتصاد العالمي، وتأرجُح النظام السياسي العالمي. فما أبعاد وأسباب ارتفاع أسعار الذهب عالميًّا؟
النظام الاقتصادي العالمي الحالي
بعد سريان اتفاقية بريتن وودز عام 1944، والتي أصبح الدولار على أثرها العملة الموازية للذهب، لجأت الدول إلى ربط عملاتها بالدولار. فقد كانت أميركا تمتلك أكثر من ثلثي احتياطي الذهب العالمي والاقتصاد الأقوى والأكثر استقرارًا، الأمر الذي جعل الدول توافق على ربط عملاتها بالدولار بدلًا من الذهب مباشرة. وبما أن الدولار كان قابلًا للتحويل إلى ذهب بسعر ثابت اعتُبر أكثر العملات أمانًا، فاعتمدته الدول في التجارة الدولية واحتفظت به كاحتياطي نقدي. حتى بعد انهيار النظام عام 1971، استمر الدولار في موقعه المهيمن؛ لأن الولايات المتحدة بقيت تمتلك أكبر اقتصاد وأسواق مالية في العالم، ولأن معظم السلع الإستراتيجية مثل النفط تسعَّر وتباع بالدولار، مما عزز مكانته كعملة رئيسة في النظام المالي العالمي.
البعد الجيوسياسي
رفع بنك أمريكا يوم الاثنين توقعاته لأسعار المعادن النفيسة، مرجِّحًا أن يبلغ سعر الذهب لعام 2026 عتبة الـ 5000 دولار للأونصة بمتوسط سعر يبلغ نحو 4400 دولار. وقد تجاوز الذهب 4000 دولار للأونصة لأول مرة على الإطلاق في الثامن من هذا الشهر، مع إقبال المستثمرين على الملاذ الآمن، بعد أن جدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية على الصين، في حين زادت توقعات خفض أسعار الفائدة الأمريكية من جاذبية المعدن الأصفر.
في الوضع الجيوسياسي الحالي، تلعب التوترات العالمية دورًا مباشرًا في ارتفاع أسعار الذهب. فالحروب المستمرة، مثل الحرب في أوكرانيا وغزة والتصعيد في الشرق الأوسط، إضافةً إلى التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين. كل هذه العوامل تخلق حالة من عدم الاستقرار العالمي تدفع المستثمرين إلى البحث عن الأمان في الذهب.
كما أن استخدام الغرب العقوبات الاقتصادية وتجميد الأصول ضد بعض الدول جعل العديد من الحكومات، خصوصًا في آسيا والشرق الأوسط، تعيد النظر في احتياطاتها النقدية وتزيد من حيازتها للذهب كبديل عن الدولار لتقليل المخاطر السياسية. فقد بدأت موجة ارتفاع أسعار الذهب في عام 2022، وكانت نقطة الانطلاق لهذا الارتفاع عندما تحركت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الآخرون لتجميد نحو 300 مليار دولار من الاستثمارات الروسية الأجنبية في بداية الحرب في أوكرانيا.
من هنا تظهر البنوك المركزية في الدول على أنها القوة الكامنة وراء هذا الارتفاع. فهم يشترون ما يقرب من ألف طن من الذهب سنويًّا لتقليل تعرضهم للدولار وتعزيز مرونتهم المالية. عندما تستمر المؤسسات الرسمية في مراكمة الذهب بهذا المعدل، فإنها تُنشئ أساسًا متينًا للسوق وتحمي اقتصادها.
البعد الاقتصادي
لطالما لجأ المستثمرون إلى الذهب خلال فترات الاضطراب الاقتصادي وارتفاع التضخم؛ باعتباره ملاذًا آمنًا عند تقلُّب الأسواق وأداة احتياط لمواجهة ارتفاع الأسعار. ورغم ارتفاع أسعار الأسهم مؤخرًا ارتفاعًا حادًّا؛ لتصل إلى مستويات قياسية هذا العام وتسارع النمو الاقتصادي في الأشهر الأخيرة بقي التضخم هذا العام منخفض نسبيًّا، مما أثار تساؤلات حول ما يغذي إقبال المستثمرين المتجدد على الذهب. فقد بدا سعر 4000 دولار للأونصة بعيد المنال في بداية العام، حيث دخل الذهب عام 2025 قريبًا من 2800 دولار للأونصة، ولكنه حقق ارتفاعًا بنسبة 50% تقريبًا ليتجاوز الـ 4000 دولار للأونصة.
في أيلول، خفّض الفيدرالي سعر الفائدة لأول مرة منذ أواخر عام 2024، وأشار إلى احتمال إجراء تخفيضين آخرين في وقت لاحق من هذا العام. وبالتالي يرتبط ارتفاع سعر الذهب بتوقعات المستثمرين ببدء الفيدرالي التخفيف بسياسته النقدية. فمع انخفاض أسعار الفائدة أصبح الذهب أكثر جاذبية كأصل مالي؛ لتفادي خسارة عوائد سندات الخزينة. ومع رفع إدارة ترامب الرسوم الجمركية، أصبح للذهب أيضًا وسيلة حماية من التضخم، وسيكون أفضل وسيلة لحماية القوة الشرائية.
يُمثل الذهب ملاذًا آمنًا للمستثمرين عند قلقهم بشأن الاقتصاد، ويزيد إغلاق الحكومة الأمريكية المستمر من قلقهم. ذكر الوضع في واشنطن المستثمرين بأن الوعود السياسية لا تعادل الأمن المالي. فيمثل الذهب حمايةً من حالة عدم اليقين، ولكن سعره الآن يعكس أيضًا مدى تراجع الثقة في الأصول الأخرى. وعلى الرغم من استمرار نمو الاقتصاد، يعرب المستثمرون أيضًا عن قلقهم بشأن الرياح المعاكسة المحتملة للنمو، بما في ذلك تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية وضعف سوق العمل.
يواجه الاقتصاد العالمي تباطؤًا في النمو وارتفاعًا في الديون والتضخم، مما يضعف الثقة بالعملات الورقية، ويزيد من جاذبية الذهب كأصل يحافظ على القيمة. لذلك، يمكن القول إن الظروف الجيوسياسية والاقتصادية الحالية تتفاعل معًا لتعزيز مكانة الذهب كملاذ آمن ورفع أسعاره إلى مستويات تاريخية. فالذهب ملاذ آمن تقليدي والرابط الرئيس للاقتصاد هو أن ارتفاع سعر الذهب يعكس تزايد حالة عدم اليقين الاقتصادي. ولكن السؤال الذي ستتضح إجابته مع الأيام هل العودة للذهب والابتعاد عن الدولار هو ترجمة لتلاشي الهيمنة الأميركية والدولار الأميركي كركيزة للتجارة الدولية؟