مقالات
انتهت العراضة الإعلامية التي شغلت الرأي العام اللبناني بخلاصة حاسمة على لسان رئيس المجلس النيابي نبيه بري مفادها أن "لا حرب والأجواء إيجابية". فعلى مدى أسبوعين ضجّ الإعلام اللبناني ووسائل التواصل برسم سيناريوهات متفجّرة تستهدف لبنان، تارة بحرب "إسرائيلية" شاملة في الجنوب والبقاع والضاحية برًا وبحرًا وجوًا، وتارة بحملة تدميرية جديدة على غرار عدوان أيلول 2024 لا تستثني إمكان ضرب مراكز ومقارّ لبنانية رسمية للضغط على الحكومة، وترافقت حملة التهويل مع تحليلات وتهديدات ساقتها جماعة "سياديي السفارات" ومنظّرو مشروع "لبنان الجديد"، ودعمتها تسريبات إعلامية "إسرائيلية" بأن القرار اتّخذ وإذا لم تعمد الحكومة اللبنانية إلى نزع سلاح المقاومة فإن "إسرائيل" ستتكفّل بذلك مباشرة.
الموقف العدائي لحكومة العدوّ وبلسان رئيسها بنيامين نتنياهو بحق لبنان ليس جديدًا، ولا يخلو يوم دون أن تصدر تهديدات مباشرة من مسؤوليها السياسيين والعسكريين تفصح عن الأهداف المرسومة للأطماع الصهيونية تحت عنوان "تغيير الشرق الأوسط" و"مشروع "إسرائيل" الكبرى"، ولكن اللافت ملاقاة البعض في الداخل اللبناني من الكتبة وأبواق الفتنة ودعاة مشاريع التقسيم، هذه التهديدات برسم خطوات تنفيذية توحي بأنهم على اطلاع كامل وتفصيلي على المجريات الميدانية وكأنهم كانوا حاضرين في غرف التخطيط "الإسرائيلية" ومشاركين في وضع التصوّرات والأهداف أو أنهم على تواصل مستمر مع صنّاع القرار السياسي والعسكري في تل أبيب.
مصادر متابعة وضعت الأداء الإعلامي والدعائي الذي يتّبعه "سياديو السفارات" في خانة تمهيد الأجواء الداخلية لترويج منطق التسوية و"السلام" مع العدوّ بذريعة فشل منطق المقاومة في حماية لبنان وعدم جدوى خيار السلاح أمام التفوّق العسكري والأمني "الإسرائيلي" والمدعوم كلّيًا من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي لم يعد لدى لبنان إلا اعتماد الخيار الدبلوماسي وسيلة لضمان الأمن والاستقرار، ولذا بدأت أصوات هؤلاء تصرّح علانية بالدعوة إلى عقد مفاوضات مباشرة مع "إسرائيل" تقود لبنان إلى الالتحاق بركب التطبيع، وهو ما تسوّق له حكومة نتنياهو ويتولّى الموفدون الأميركيون هندسة تنفيذه وفق ما رشح عن فحوى اللقاءات التي أجرتها مورغان أورتاغوس في بيروت، والذي سيتابعه المبعوث الأميركي الوقح توم براك لاحقًا.
تضيف المصادر أن ما تشهده الساحة اللبنانية من ضغوطات "إسرائيلية" بالنار قتلًا واستباحةً للسيادة مترافقة مع ضغوطات دبلوماسية أميركية على الحكم بالتزامن مع الحملات الداخلية الشعواء التي تستهدف المقاومة وسلاحها وبيئتها، كلّها تسير على خط واحد ومدروس بغية إسقاط الساحة على المستويين الرسمي والشعبي وضرب مقوّمات صمودها تمهيدًا لفرض أمر واقع يقود لبنان إلى طاولة المفاوضات والتوقيع على اتفاق إذعان، في استعادة للمجريات التي حصلت إبّان الاجتياح "الإسرائيلي" في العام 1982، مع تغيير في بعض التكتيكات التي تفترضها المرحلة والتي توجب العمل على إزالة الموانع من أمام "الحل الأميركي - الإسرائيلي" وعلى رأسها المقاومة وسلاحها وبيئتها، وهنا العقدة الكبرى.
يقرّ المسؤولون في واشنطن أن لبنان، على الرغم من أنه لا يشكّل أهمية إستراتيجية كبرى في سياق المشروع الأميركي قياسًا بالأهمية الجيواقتصادية لكل من فلسطين وسورية، يمتلك العناصر والمقوّمات التي تحمل في باطنها تهديدًا مباشرًا وقويًا للمشروع العام المرسوم للمنطقة، والذي تحتلّ فيه "إسرائيل" موقع المحور الأساسي كضابط ارتباط أمني وعسكري وشركة قابضة للنفط العربي والطريق التجاري الهندي، فضلًا عن كونه امتدادًا للمطامع "الإسرائيلية" على مستوى الأرض ومنابع المياه الضرورية التي تغذّي فلسطين المحتلة، وهذا ما يحتّم ضمّ لبنان إلى مساحة الكيان الصهيوني، أو بالحد الأدنى إرساء نظام فيه لا يتعارض مع المشروع "الإسرائيلي" بل يؤيده ويتكامل معه، وهو حلم تاريخي فشلت كلّ حكومات العدوّ المتعاقبة في تحقيقه حتّى اليوم بفعل المقاومة وصمود أهلها وبيئتها.
بالتوازي تلفت المصادر المتابعة إلى الحركة المصرية المستجدّة باتّجاه لبنان مع زيارة مدير المخابرات المصرية العامة اللواء حسن رشاد إلى بيروت فضلًا عن الحركة الروتينية التي يجريها السفير المصري علاء موسى على المسؤولين اللبنانين سرًا وعلانية فضلًا عن حضور الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، والذي غالبًا ما تكتسب زياراته سمة استطلاع الأجواء حيال أي مشروع تتولى القاهرة تسويقه تحت مظلة الجامعة، وتدعو المصادر نفسها إلى ترقّب ما قد يترتب على هذه الزيارات من حراك عربي - إقليمي يشبه إلى حد كبير الحراك الذي جرى قبل توقيع اتفاق شرم الشيخ حول قطاع غزّة، والذي أفضى إلى وقف إطلاق النار وتسليم أسرى العدوّ مقابل تحرير مئات المعتقلين الفلسطينيين من السجون الصهيونية، مشيرة إلى أن مصر تلعب اليوم دور "أم الصبي" وتراهن على أنها قادرة على إنقاذ لبنان من أتون الحروب المدمرة مثلما نجحت في إنقاذ الفلسطينيين في قطاع غزّة وأحبطت مشروع تهجيرهم إلى خارج قطاع غزّة.
وتوضح المصادر أن المساعي المصرية تتفيأ حتّى الآن المظلة الأميركية التي باتت ترى في الحلول الدبلوماسية للمنطقة خصوصًا وسيلة أفضل من الخيارات العسكرية، لا سيّما أن نتنياهو لم يستطع على مدى سنتين من الحرب تغيير المعادلات الميدانية القائمة سوى الإمعان في التدمير وخلق أزمات اجتماعية وإنسانية أدّت إلى تهشيم صورة "إسرائيل" وديمقراطيتها المزعومة لدى الرأي العام العالمي وطرديًا تأثرت بها الولايات المتحدة سلبًا بسبب دعمها لهذه الحروب. وترى المصادر أن القاهرة تعمل على تثبيت موطئ قدم لها في المعادلات الإقليمية من بوابة فلسطين ولبنان، وهما الساحتان اللتان طالما كانتا ميدانًا للحضور المصري، وهي تبني على نجاحها في معالجة الملف الفلسطينية لتنطلق في تكرار التجربة في الملف اللبناني، وترى أن فرص نجاحها في بيروت مرتفعة مع الغطاء الأميركي والتجاوب "الإسرائيلي" مع ترامب ومرونة الأطراف اللبنانية في التعاطي مع القضايا العربية المشتركة.
كل ما سبق لا يعني أن نتنياهو سيضع حدًا لجموحه التوسعي، ولكنه في المرحلة الراهنة سيواصل سياسة الضغط الميداني المباشر على لبنان وفق الوتيرة الحالية، وسوف يسعى لاستغلال الوقت المستقطع في هذه المرحلة لإعادة تموضعه السياسي داخل الكيان الصهيوني وتنظيف سجلّه من الدعاوى القضائية التي تلاحقه استعدادًا لخوض معركة انتخابات "الكنيست" التي من المرجح تقريب موعدها لحسم موقعه في تركيبة النظام، كما أن لبنان سيكون محكومًا بالتهدئة النسبية مع قرب زيارة البابا لاوون إلى بيروت وإعطاء الفرصة للمساعي المصرية في التوصل إلى حل يرضي كلّ الأطراف. إلا أن المصادر نبّهت من عوامل عرقلة مباشرة لهذه المساعي قد تأتي من أطراف وجهات ودول متضرّرة من تصدّر القاهرة المشهد السياسي والدبلوماسي وانكفاء دورها على الساحة اللبنانية، على غرار ما حصل في اتفاق شرم الشيخ الذي كرّس موقع كلّ من مصر وقطر وتركيا، ودعت إلى مراقبة المواقف اللبنانية المحسوبة على هذه الجهات والدول، والتي غالبًا ستأخذ منحى الانتقاد السلبي، ومحاولة إعادة بوصلة الاستهداف نحو المقاومة.