اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي يوميات أولي البأس | 01 تشرين الثاني 2024

مقالات

اليوم التالي في غزّة… حين تُعلن المقاومة بقاءها وتفقد
مقالات

اليوم التالي في غزّة… حين تُعلن المقاومة بقاءها وتفقد "إسرائيل" قدرتها على النسيان

154

من يظنّ أن الحرب على غزّة انتهت بوقف إطلاق النار، يجهل طبيعة الحروب التي لا تُحسم في الميدان فقط، بل في الوعي والذاكرة والسياسة. فالحروب الحديثة، كما تُظهر تجربة غزّة، ليست فصلًا بين نارٍ وسلام، بل تواصل دائم بين هدوءٍ يحمل رمادًا لم ينطفئ، ودمارٍ يتحوّل إلى شهادة على عجز القوّة.
اليوم التالي في غزّة ليس مشهدًا إداريًا يُرسم في مؤتمرات الإعمار، بل فصلٌ جديد في معركة الهوية والسيادة والذاكرة. فالمقاومة، التي خرجت من تحت الركام لتعلن بقاءها، لم تنتصر في الأرقام فحسب، بل في قدرتها على نزع الشرعية عن النصر "الإسرائيلي" المزعوم، وتحويل الهزيمة المعلنة إلى قيدٍ يُكبّل وعي المحتلّ نفسه.
غزّة التي تكتب تاريخها من تحت الأنقاض
منذ اللحظة التي صمتت فيها المدافع، حاولت "إسرائيل" ومعها الغرب رسم "اليوم التالي" لغزّة على مقاس مصالحهم الأمنية. تحدثوا عن "إدارة مدنية"، "قوة دولية"، "حكومة تكنوقراط"، وكأن الكارثة كانت مجرد خللٍ إداري يحتاج إلى إعادة ضبط.
لكن ما فاتهم أن غزّة لم تعد مجرد جغرافيا للسيطرة، بل أصبحت رمزًا كونيًا لمعنى الحرية في زمن الاستسلام. في كلّ بيتٍ مدمّر، وطفلٍ يخرج من تحت الركام، تولد سردية جديدة تُعيد تعريف النصر والهزيمة.
لم تعد المقاومة مجرد فصيلٍ يحمل السلاح، بل تحوّلت إلى ذاكرة جمعية ترفض الانكسار. هذه الذاكرة هي التي تخيف "إسرائيل" أكثر من الصواريخ. فالمقاومة التي نجت من الإبادة لا يمكن شطبها من التاريخ، لأنها لم تعد خيارًا سياسيًا، بل حقيقة وجودية.
هزيمة القوّة حين تعجز عن فرض النسيان
تُدرك "إسرائيل" أن أخطر ما واجهته في هذه الحرب لم يكن صمود الأنفاق ولا مفاجآت الميدان، بل عجزها عن إقناع نفسها بأنها انتصرت.
لقد دمّرت البيوت، لكنّها لم تكسر الروح. قتلت القادة، لكنّها لم تُنهِ الفكرة. سيطرت على السماء، لكنّها فقدت السيطرة على المعنى.
إنها الهزيمة التي لا تُقاس بعدد الصواريخ بل بقدرة الوعي على التذكّر. فكلّ  صورة طفلٍ من غزّة تهدم عشر حملات دعائية في "تل أبيب"، وكلّ  بيتٍ يُعاد بناؤه يُعيد معه سرديةً كاملة عن الفشل الأخلاقي للدولة التي تدّعي الديمقراطية.
ولهذا، تفقد "إسرائيل" اليوم قدرتها على النسيان؛ لا لأنها لا تريد، بل لأنها لا تستطيع. فغزّة أصبحت جزءًا من ذاكرتها الملعونة، الجرح الذي لا يلتئم مهما غيّر الاحتلال شكل الحرب أو تبدّلت حكوماته.
"اليوم التالي" كأداة للهيمنة
منذ اللحظة الأولى لوقف النار، تحرّكت واشنطن والقاهرة والدوحة لترتيب ما سُمّي بـ"المرحلة الانتقالية". لكن المصطلح ذاته يكشف الوهم: انتقال إلى ماذا؟ ومن يملك تعريفه؟
في جوهره، "اليوم التالي" ليس مشروع سلام بل آلية لضبط الواقع. فحين يُرفع شعار "إعادة الإعمار"، يُراد به إعادة ترتيب الخضوع. وحين يتحدثون عن "حكومة مدنية مؤقتة"، فإنهم يقصدون تجريد المقاومة من عمقها الشعبي تحت غطاء "التوافق الوطني".
غير أن هذا المشروع يصطدم بحقيقة صلبة: أن كلّ سلطة تُمنح من الخارج ستُرفض في الداخل. فالشعب الذي عاش الإبادة لا يمكن أن يقبل وصاية جديدة بلغة أكثر تهذيبًا. لهذا، لا معنى لـ"اليوم التالي" إلا إذا كان يومًا فلسطينيًا خالصًا، يعبّر عن إرادة من صمدوا لا عن إرادة من فاوضوا.
وفي هذا السياق، جاء البيان الأخير القويّ للفصائل الوطنية الفلسطينية ليؤكد هذا المعنى بوضوح، حين شدّد على أن غزّة ليست ساحة لتجارب سياسية جديدة ولا لحكومات مستوردة من الخارج، بل فيها من الكفاءات والخبرات ما يكفي لإدارة شؤونها بقدرة ومسؤولية وطنية. وقد عبّر خليل الحية عن ذلك صراحة، حين أشار إلى أن الحكومة التي كانت قائمة في غزّة تضمّ شخصيات مهنية كانت في الأصل جزءًا من مؤسسات حكومة رام الله، ما يعني أن فكرة "البديل الإداري" ليست سوى ذريعة لإعادة فرض الوصاية، لا لحلّ أزمة الحكم.
المقاومة تعيد تعريف السياسة
لم تعد المقاومة في غزّة مجرّد فاعلٍ عسكري، بل فاعل سياسي وفكري وأخلاقي. فقد أثبتت الحرب أن من يملك القدرة على البقاء يملك الحق في القرار.
حين انهارت أبراج غزّة، لم تنهَر إرادة الحكم الذاتي، بل تجددت. حين قُتل القادة، لم تنتهِ القيادة، بل أعادت إنتاج نفسها في وعي الجيل الجديد.
ولأول مرة منذ أوسلو، تتصدّر المقاومة المشهد كصاحبة مشروعٍ سياسي بديل: لا سلطة منزوعة السيادة، ولا إدارة تحت سقف الاحتلال، بل نموذجٌ لتحررٍ حقيقي يعيد تعريف معنى الدولة تحت النار.
لقد تحوّلت غزّة إلى مدرسة في الواقعية المقاومة، حيث لا تُبنى السياسة على التنازلات، بل على القدرة على تحمّل الثمن دون فقدان الاتّجاه.
فشل "نموذج الردع" وانكشاف الضعف "الإسرائيلي"
في المقابل، تواجه "إسرائيل" اليوم أعمق أزمة سياسية في تاريخها. فالحرب التي وُعدت أن تكون "القاضية" على حماس تحوّلت إلى مرآة كشفت عمق الانقسام داخل المؤسسة "الإسرائيلية".
اليمين الذي كان يفاخر بالردع يبحث الآن عن مخرجٍ سياسي يحفظ ماء الوجه، والجيش الذي وعد بالنصر خرج منهكًا ومُثقلًا بالخسائر.
لقد فقدت "إسرائيل" ما كان يُسمّى "هيبة الردع". فكلّ  عملية قصفٍ جديدة أصبحت اعترافًا بالعجز، لا استعراضًا للقوة.
حتّى التحالف "الأميركي - الإسرائيلي" اهتزّ، بعدما أدركت واشنطن أن الحرب لم تُنتج أمنًا، بل أزمة مفتوحة قد تُطيح بما تبقى من "الاستقرار الإقليمي".
ولعلّ المفارقة الكبرى أن "إسرائيل" التي أرادت نسيان غزّة، أصبحت أسيرة ذاكرتها اليومية معها، تلاحقها الصور، والأصوات، والرموز التي لم تعد قابلة للمحو.
المقاومة كذاكرة حيّة… والسياسة كفنّ للبقاء
من يقرأ المشهد اليومي في غزّة يدرك أن المقاومة لم تعد تعيش في الأنفاق فقط، بل في تفاصيل الحياة.
هي في إعادة البناء الجماعي، في المساعدات المحلية التي تتجاوز البيروقراطية، في الإعلام الشعبي الذي يروي القصّة كما هي، بلا وسطاء.
هذه المقاومة اللامركزية، الشعبية، الأخلاقية، هي التي تجعل من فكرة "الحكم من الخارج" عبثًا. فالحاكم الحقيقي هو من يملك الوجدان لا من يملك التوقيع.
ولذلك، تحاول "إسرائيل" بكلّ أدواتها أن تُفرغ النصر الفلسطيني من معناه: تُشيطن، تُحاصر، تُعاقب. لكنّها تفشل في مواجهة الحقيقة الأبسط: أن من واجه الموت لعامين كاملين لا يمكن أن يخاف من العقوبات.
حين يصبح "اليوم التالي" لحظة وعي
قد تظنّ القوى الدولية أن بإمكانها إعادة تشكيل غزّة عبر مشاريع ومؤتمرات، لكنّها تتجاهل أن المجتمع الفلسطيني تغيّر جذريًا.
جيلٌ كامل وُلد من تحت الدمار، لا يعرف الخوف، ولا يؤمن بسلامٍ يفرضه القتلة. هذا الجيل لا يفاوض على حقه في الذاكرة، ولا يقبل أن يُعرّف بصفته "ضحية إنسانية". إنه فاعل سياسي جديد، صلب، يُعيد رسم الخريطة من تحت الركام.
وهكذا يصبح "اليوم التالي" ليس حدثًا سياسيًا، بل لحظة وعي جماعي، يدرك فيها الفلسطيني أنه لا يحتاج إلى اعتراف العالم بوجوده، بل إلى استمرار وجوده كفعل مقاومة.
من الذاكرة تبدأ المعركة الجديدة
في النهاية، لم تنتصر غزّة بالسلاح فقط، بل بالذاكرة. فحين يفشل الاحتلال في فرض النسيان، يكون قد خسر الحرب الكبرى.
اليوم التالي في غزّة ليس يومًا بعد الحرب، بل يوم بعد الوهم. يوم تُعلن فيه المقاومة بقاءها، وتفقد "إسرائيل" قدرتها على النسيان.
فمن يعجز عن طيّ صفحة غزّة، يبقى أسيرها إلى الأبد. ومن يخرج من تحت الركام ليكتب، لا يعود بحاجةٍ إلى إذنٍ من أحد.
إنها اللحظة التي تتجاوز فيها غزّة حدودها الجغرافية لتصبح فكرة عالمية: أن البقاء مقاومة، وأن النسيان هو الهزيمة الوحيدة التي لا تُغتفر.
 

الكلمات المفتاحية
مشاركة