نقاط على الحروف
يقول عالم التاريخ الأميركي "ثاد ستارمر"، "إنّ غزّة ليست حدثًا حاليًا، بل هدم للأسس الأخلاقية، فقد غيَّرت غزّة نظرتنا للتاريخ إلى الأبد"، ويضيف: "نحن لا نشاهد الإبادة الجماعية فقط، بل نشاهد البوصلة الأخلاقية للذاكرة الحديثة تنهار".
فقد عاش الكيان على فرية "الضحية التي تقاوم"، الضحية التي قاومت "الهولوكوست" ونجت، والضحية التي لا زالت تقاوم محيطًا عربيًا همجيًا بربريًا، كما كان يعتمد إستراتيجية سمّاها "اقتل ثمّ ابكِ" أو "أطلق النار ثمّ ابكِ"، وقد أثبتت هذه الفرية كما إستراتيجية دموع التماسيح نجاعتها، حيث أصبح العالم بين الرعب والتعاطف، الرعب من مقصلة "معاداة السامية"، أو التعاطف مع دمعة القاتل التمثيلية بعد ارتكاب الجريمة.
ولكن جاءت فضيحة "سدي تيمان"، بعد انهيار هذه المرتكزات، وانكشاف الكذب المتراكم على مدار عقود، جاءت بعد أن تابع العالم على البث الحيّ والمباشر، الإبادة التي يمارسها القاتل الذي كان يستعطفه بالدموع، فاكتشف أنّها دموع الفرح والتلذذ بالقتل.
والجريمة في "سدي تيمان" لا تعدو كونها ممارسة يومية في عتمة الزنازين، بعيدًا عن "الكاميرات"، وهي قطرةٌ في بحرٍ لا متناهٍ من الجرائم، فالكيان لا يستطيع البقاء بلا جريمة، فالجريمة فيه هي الأصل والدائم، لا الطارئ والاستثناء، وهي مقومات إنشائه وديمومة بقائه.
وهذه الضجّة المُثارة حول هذه الفضيحة، تبدو وكأنّها مفتعلة في جانبٍ منها، حيث إنّ الجرائم التي ارتكبها العدوّ فقط ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تحتاج لمحاكم العالم مع العمل بكلّ طاقتها، عشرات السنين لإحصائها، وسيظل التاريخ عاكفًا على دفاتره بلا توقف، لتسجيل كلّ تلك الجرائم، وقد ينفد مداده قبل أن تنفد الجرائم في فلسطين ولبنان واليمن وإيران وسورية.
وهنا يصبح السؤال مشروعًا: لماذا يتم ضخّ كلّ هذه المعلومات والأخبار عن جريمةٍ اعتيادية؟ فالمدعو بن غفير بصفته وزيرًا للأمن الداخلي، يصطحب "الكاميرا" إلى داخل الزنازين، ويقوم بممارسة جرائم حرب على البث المباشر بكلّ فخر، ويتوعد بالمزيد دون رادع، وفضيحة "سدي تيمان"، على فظاعتها، لا تُقارن بجرائم ارتكبها الكيان كلّ دقيقة على مدار عامين من الإبادة.
هناك محاولات لا تتوقف لاستعادة السرديات الملفّقة للكيان، عن "الضحية التي تقاوم"، وعن "واحة الديمقراطية" في محيطٍ همجي، وعن "القضاء الصارم والنزيه"، الذي كان يعتبره العالم بمؤسساته السياسية والقانونية، صارمًا للحدّ الذي يجعل المحاكم الدولية تثق بصرامته وعدالته، وكان دائمًا مطيّة الكيان للإفلات من العقاب، وذلك من خلال الإيحاء بأنّ الكيان "دولة" مؤسسات، وليس مجرد عصابة تديرها أميركا.
وهي عصابة بالملايين، تبيح القتل والنهب واغتصاب الأرض بما ومن عليها، وما فوقها وما تحتها، حيث إنّ أكثر من 85% من هذه العصابة المتنكرة في زيّ "دولة" و"مجتمع"، حسب استطلاعات رأي "إسرائيلية"، تؤيد جرائم الإبادة الجماعية، بل وتتعطش للمزيد، ويتسابق زعماء العصابة لسفك الدم والتدمير، ليحوزوا أصواتًا أكثر في صناديق الانتخاب.
إنّ الكيان كله عبارة عن "سدي تيمان" مجمَّع للقتلة، الذين لا يفرّقون بين الأمراض النفسية وسطور التوراة، يمارسون الساديّة باعتبارها دينًا، ويحاولون تجيير كلّ ما ارتكبوا من جرائم لصالح الرَّب، الذي كلّفهم باستعجال نزول "المشيح"، وأنّها "الدولة" التي ستحقق النبوءات، ورغم أنّ هذا يُعتبر مزاحًا غير رصين في السياسة، لكن نتنياهو لا يتردّد في ممارسة هذا المزاح السخيف من على منبر الأمم المتحدة.
وقد تبدو ذاكرة العالم مشوشة عن الجرائم الأميركية في العراق مثلًا، والتي لم تنتهِ بعد، ولكن ظلّ سجنُ أبو غريب ماثلًا، وكذلك الجرائم في أفغانستان، بالكاد يذكرها العالم، باستثناء سجن "غوانتانامو"، فهل يريدون لـ"سدي تيمان" أن يظلّ الخدش الأوحد في "أخلاقيات الجيش الأكثر أخلاقيةً" في العالم؟ "الجيش" الذي لا يرى القوّة والردع إلّا في قدرته الهائلة على قتل الأطفال والنساء والعُزَّل.