مقالات

إصرارٌ على التسطيح وإلحاح شديد على التقزيم، تمارسه بعض وجوه النخبة في مصر بشأن معبر رفح. وهم يقاربون الأمر بكونه" خناقة على القهوة"، وليس قضيةً مصيرية تمس جوهر أمن مصر القومي أولًا، والوطن العربي ثانيًا، ولا تُستثنى النُخب الحاكمة من هذه المقاربات السطحية.
خرجت مصر القديمة لمحاربة الحثيين، حوالي 1274 قبل الميلاد، في أقصى شمال الشام وعلى الحدود المعروفة اليوم بالحدود التركية. ومنذ ذلك التاريخ السحيق، تعرف مصر أنّ غزة هي مدخل للغزاة والطامعين كلّهم، وحتى عهد "محمد علي باشا" وصولًا إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كانت تدرك مصر، أنّ غزة بوابتها الشرقية، ولا أمن ولا استقرار لها بوجودٍ عدوٍ طامعٍ على حدودها الشرقية... فكيف إذا كان هذا العدو هو"إسرائيل"، كيانٌ قائمٌ على هرطقات توراتية وخزعبلات تُصبغ دينيًا، ترى في مصر أرضًا "توراتية"، ويجب استعادتها والسيطرة عليها. ومهما بدا هذا الكلام هراءً، هو بالنسبة إلى الكيان استراتيجيات يُعمل على تحقيقها بالوسائل كلها.
لكنّ مصر، بعد اتفاقيات "كامب ديفيد"، قبل ما يربو على خمسين عامًا، أخرجت من الصراع العربي-"الإسرائيلي"، وهي بذلك دخلت عصر التهميش الدولي والإقليمي، مع أنّها في العهد الناصري كانت جزءًا لا يتجزأ من خرائط النفوذ الدولية والإقليمية، وكان بعض الساسة الأمريكيين يرددون أنّه: "لا تكتمل اللعبة الدولية إلّا بوجود ناصر على الطاولة".
كثيرة كانت مظاهر النفوذ المصري في العهد الناصري، ولن تكفي هذه المساحة مهما كبرت لإحاطتها، لكن نذكر مثالًا واحدًا، خصوصًا أنّه مثالٌ يناقض الواقع تمامًا. لقد كان إمبراطور الحبشة (أثيوبيا) هيلاسيلاسي يتمتع بقدسية بين الشعب الأثيوبي، إلى حدّ أنّ مليون أثيوبي كانوا يعبدونه وكأنه إله، ومع ذلك كان لا يستطيع، أو لا يرغب أو لا يريد، اتخاذ القرارات قبل استشارة جمال عبد الناصر.
بعد خمسين عامًا من إخراج مصر من الصراع العربي-"الإسرائيلي"، يبدو أنّه حان الآوان لإخراجها من التاريخ، بسلبها أقوى أوراقها لعبور التاريخ وإمساكها زمام المنطقة وقيادتها نحو الرفعة وسيادة الأمة.
يدرك الغرب الاستعماري أنّ مصر هي قاطرة الأمة العربية، والأخطر هي وحدة مصر والشام، لذلك حارب الوحدة المصرية- السورية في العام 1958، بكل ما أوتيّ والكيان الصهيوني من أدوات ووسائل. من هنا؛ كان هدف زراعة هذه الغدة السرطانية في فلسطين، في الدرجة الأولى، استهدافًا لمصر وتاريخها وجعلها أمةً جاثية، لأنّ النتيجة الحتمية لإخضاع مصر، هو إخضاع الأمة العربية، فمصر الجاثية تعني أمة جاثية.
هذا؛ ويثور الحديث مجددًا في هذه اللحظات، وفي ظل حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة وسلاح التجويع، عن معبر رفح، ويجري فيه تقاذف الاتهامات بين مؤيدٍ ومعارض، في ما يشبه السيرك. وهو نقاشٌ عبثيّ لا طائل منه، وإصرارٌ أحمق على تسطيح الصراع وتقزيم الدور المصري، إلى حد تصوير مصر مجرد ساعي بريد.
بعد سيطرة الكيان على ما يعرف بــ"محور فيلادلفيا"، تعاملت مصر مع الأمر في أداء بدت فيه أنه لا يعنيها، وحتى إنّ السلبية المصرية أزاء سلوكيات الكيان العدوانية، لم يقابلها الكيان بردّ الجميل أو حتى غضّ النظر، بل اتهم نتنياهو مصر بحصار قطاع غزة، وحتى الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن اتهم الرئيس المصري شخصيًا بإغلاق المعبر وحصار القطاع.
إنّ مصر تملك، اليوم، ورقةً تعيدها إلى طاولة اللعبة الدولية من بوابة معبر رفح. وهي ورقة المعبر وفكّ الحصار، وذلك ليس عبر احتكاك عسكري، إنما في اتخاذ مبادرات حقيقية وخطوات فعّالة، دبلوماسيًا وسياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وتجاريًا وقانونيًا.. ولتدع المناكفات الصغيرة لعالم مواقع التواصل الاجتماعي، فقدر مصر أن تكون كبيرة، حتى لو لم ترد ذلك، فهذه "لعنة الجغرافيا" كما كان يقول ياسر عرفات، أو عبقرية الجغرافيا كما كان يقول "جمال حمدان"..!