مقالات مختارة
صحيفة البناء - ناصر قنديل
- قلة الأدب التي تعامل بها المبعوث الرئاسي الأميركي توماس برّاك مع الإعلاميين والصحافيين وهو يتكلم من منبر رئيس الجمهورية، بوصفهم بالحيوانات، أعاد التذكير بقلة أدب زميلته مورغان أورتاغوس يوم شكرت الاحتلال على جرائمه بحق اللبنانيين التي قتل فيها الآلاف وبينهم نساء وأطفال ودمّر خلالها آلاف المنازل والمنشآت العمرانية والاقتصادية، كمجرم حرب، ما يكشف الحقد الدفين النابع من روح عنصرية تجد مثالها الأعلى في الكيان المجرم، وتنظر إلى شعوبنا وبلادنا بعين الازدراء والاحتقار والتعالي والتعجرف، مهما ذيّلت كلامها بالتعابير الودّية نفاقًا وممالأة، فلا أورتاغوس تعرف تذوّق الطعام اللبنانيّ ولا برّاك فخور بما يقول إنها دماء لبنانية تجري في عروقه.
- عندما تخرج الكلمات المسيئة من فم مسؤول في ظروف غير مبرّرة، فذلك يكشف باطنه الحقيقي في لحظة خروج عن السيطرة، وهو بالتأكيد لا يجرؤ فعل ذلك من منبر بنيامين نتنياهو ومع الصحافة "الإسرائيلية"، ما يعني أن الخروج عن السيطرة يرتبط بدرجة السيطرة نفسها التي تقرّرها نظرته الباطنة للمكان الذي يتحدّث منه والناس الذين يخاطبهم، لأنه حيث يشعر بالازدراء للمكان والناس تظهر فلتات لسانه، وحيث يشعر بمهابة المكان والناس يتهذّب لسانه ويضبط أعصابه، والعيب في اللبنانيين الذين ابتلعوا ألسنتهم أمام الإهانة التي لم تصمت عنها رئاسة الجمهورية ولا وزارة الإعلام فحفظت كلّ منهما مقامها ومقام من وما تمثل، وقد كان بمستطاعهم التظلل بكلام الرئاسة لتسجيل موقف يوحي ببعض شرف وكرامة وقيمة للوطن، وهم متخصّصون بتصيّد تصريح لمسؤول إيراني لم يسمع به أحد سواهم للتعليق عليه باعتباره انتهاكًا للكرامة الوطنية والسيادة اللبنانية.
- لأن الذي جرى من جانب الإعلاميين كان طبيعيًا ومكرّرًا وتقليديًا وروتينيًا فليس هو سبب انفجار قلة أدب توماس برّاك، بل السبب في مكان آخر، هو المهمّة الفاشلة التي أراد القيام بها تجميل كلام رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وتصويره قبولًا بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وفق مبدأ خطوة مقابل خطوة، وهو الواضح بتنكّره لأي التزام بوقف الاعتداءات والانسحاب وإصراره على ترتيبات وهو اسم ما تقوم به قوات الاحتلال منذ عشرة شهور بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني من العام الماضي، واستبداله الانسحاب بالتخفيض التدريجيّ للقوات، ما يعني بقاء بعضها في الأراضي اللبنانية، هذا عدا عن المنطقة العازلة المكوّنة من عشرات القرى المدمرة التي يتمسك بمنع إعمارها ومنع أهلها من العودة إليها، ونتنياهو يستبدل الخطوة مقابل خطوة بمعادلة كلّ الخطوات أولًا مقابل نصف خطوة لاحقًا، لكن توماس برّاك تاجر عقارات يستطيع بيع عقار ممنوع البناء عليه بصفته عقارًا يصلح لريفييرا، لكنّها بضاعة كاسدة لا تشترى ولا تباع في لبنان. ويبدو أن برّاك الفاشل بدلا من أن ينفجر غضبًا داخل الاجتماع حمل غضبه إلى الخارج وانفجر بوجه الصحافيين.
- ما جرى يفضح فجور برّاك بما هو أبعد من قلة الأدب مع الصحافيين، حيث قلة الأدب الأصلية مع لبنان، عبر الضغط للمضي بنزع سلاح المقاومة رغم عدم استجابة الاحتلال للقيام بالخطوة المقابلة المنصوص عليها في ورقة برّاك نفسه والتي تتضمن وقف الأعمال العدائية مع إقرار الحكومة للجدول الزمني لنزع السلاح. وهذا يجب أن يعني لبنانيًا اعتبار الورقة التي قدمها برّاك وقبلتها الحكومة غير موجودة وإعلان العودة إلى الاتفاق الأصلي المبرم في تشرين الثاني 2024، والذي لا يحتمل التأويل والالتباس، لجهة أن على الاحتلال بعد انسحاب المقاومة من جنوب الليطاني وقف كلّ الأعمال العدائية بما في ذلك وقف انتهاك الأجواء اللبنانية والانسحاب الكامل إلى ما وراء الخط الأزرق بما في ذلك الجزء اللبناني من بلدة الغجر، ليبدأ بعدها تفاوض غير مباشر لحسم أمر المناطق المتنازع عليها واعتماد حل لقضية مزارع شبعا، سبق وصاغه الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون عام 2007 عبر طلب وضع مزارع شبعا تحت رعاية الأمم المتحدة عبر الانسحاب منها لصالح قوات اليونيفيل إلى حين اتفاق لبنان وسورية على هويتها، وبذلك تستردّ الحكومة زمام المبادرة والوحدة الوطنية حول موقفها، وتبقي الكرة في ملعب الاحتلال.
- هل تجرؤ الحكومة على فعل ذلك أم تفضل السير وراء سراب برّاك ولو عبر تعميق الشرخ الداخلي وتهديد الوحدة الوطنية، فتضيع الفرصة مجددًا، والفرصة اليوم تتيح تخفيف العبء الذي ألقته الحكومة على كاهل الجيش الذي لم تنفق عليه قرشًا لتجهيزه للقيام بمهام بحجم مواجهة الاعتداءات، كما كان يفعل دائمًا، وقد فعل أعوام 1948 و1972 خصوصًا، ثمّ طوال فترة ما بعد اتفاق الطائف وصولًا إلى معركة الجرود، بينما يمنع اليوم من الرد على أي اعتداء وحماية القرى من أي انتهاك والتصدّي لأي من طائرات الدرون، بما يدمر الروح المعنوية للجيوش، ثمّ يقال للجيش إن اتباع الصمت أمام تهديد العدوّ حكمة وإشهار السلاح نحو أخوة السلاح في المقاومة فعل سيادة وشجاعة؟؟