مقالات

يدرك نتنياهو أنّ النصر محّاء الخطايا، وأنّ المنتصر يحوز كل شيء، فيما يخسر المهزوم كل شيء، لذا فهو قليل الاهتمام بكل ما يجري على هامش عدوانيته وجرائمه، من إجراءات سياسية أو عقوبات، أو تراجع صورة "واحة الديمقراطية"، وصورة الكيان في الغرب على المستوى الشعبي والأكاديمي، حتى داخل الولايات المتحدة، أو انكسار صورة المظلومية "الهولوكوست" وانكشاف زيفها.
هو يعتقد جازمًا أنّ الانتصار سيجعل من كل ذلك مجرد مرحلة وانطوت، وسيتم تتويجه ملكًا "إسرائيليًا" كملوك التوراة كما يحلم في يقظته، ودوليًا سيأتي سحرة القانون ودهاقنة السياسة بألف وسيلةٍ لمحو كل جرائمه، وإعادة تسويقه كمخلّص.
وهذا بعكس إذا ما اضطر أو أُرغِم على وقف الحرب، وهذا الوقف كيفما كان ووقتما كان، سيُعتبر هزيمة، أو حتى نصف هزيمة، خصوصًا إذا فشل في تحرير الأسرى والقضاء على حماس، وهذه الهزيمة تعني أنّه سيدفع ثمنًا لكل شيء، بل أثمانًا مضاعفة عن كل الجرائم دوليًا ومحليًا، وسيتم سحقه سياسيًا وقانونيًا في "إسرائيل"، وسيتم تحميله وحده كل جرائم الكيان دوليًا، باعتباره المجرم الوحيد في "إسرائيل".
وهو لذلك يرى معركة غزة هي السلم الأخير نحو مجده، أو المجازفة الأخيرة نحو حتفه، لكنه لا يملك منطقةً وسطى، خصوصًا أنّ خلفه عصًى أميركية غليظة، وكذلك جوائز كبيرة، بينما غزة لا ترى في هذه المعركة موتها الأخير، رغم أنّ الموت يحيط بها من كل جانب، وهو الثابت الوحيد في عالمٍ يموج بالحركة والتغيير.
لا شيء على الإطلاق أسوأ من تدمير غزة سوى ضياع فلسطين، وغزة دائمًا ما كانت المسمار الأخير في نعوش الغزاة، كما كانت دومًا هي آخر القلاع سقوطًا أمام الغزاة، ومنذ ما قبل التاريخ تعرضت غزة لمراتٍ عديدة من التدمير، وغالبًا كان التدمير انتقاميًا، لشدة ما أذاقت غزة العذاب لغُزاتها، كما حدث مع الرومان، حين استعصت عليهم فحاصروها عامًا كاملًا، وحين دخلوها هدموها وخرّبوها.
كذلك استعصت على الإسكندر المقدوني، حين استعان أهلها بحفر الأنفاق لمواجهة جيوش الإسكندر، ومن المعروف أنّ غزة وصور هما فقط المدينتان اللتان استعصتا على الإسكندر فحاصرهما أربعة أشهر، ودخل غزة حين قام بحفر الأنفاق من تحت أسوارها لمواجهة أنفاق غزة، مرورًا بالاستعصاء والتمرد على حكم معاوية خمس مرات، والمقاومة الشديدة التي لاقتها جيوش نابليون، الذي لم يمكث فيها طويلًا لهزائمه، ثم الاستعصاء على الدولة العثمانية عام 1516، ودفع سكانها ثمن ذلك مجزرةً راح ضحيتها الآلاف.
وصولًا إلى العام 1888، حين قررت بريطانيا ضم غزة لمصر تحت احتلالها. في ثلاث حروبٍ متتالية، خسرت في أولاها حسب مذكرةٍ بريطانية داخلية، نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية، أربعة آلاف جندي، وفي الحرب الثانية خسرت بريطانيا ستة آلاف جندي على أسوارها، قبل أن تأتي المعركة الأخيرة مع الجنرال ألينبي، ونجح بخطة الالتفاف على المدينة من خاصرتها الضعيفة للجهة الصحراوية من بئر السبع.
يتفق المؤرخون أنّ من يُخضع غزة يُخضع سواها من المدن، ومن يستولي عليها يستطيع الاستيلاء على ساحل وبرّ الشام، ولكن الوضع الراهن سيجعل من الاستيلاء على غزة، بمعنى كسرها وكسر مقاومتها، بمثابة الإيذان بالاستيلاء على كل الوطن العربي والإسلامي من خلفه، وهذا يجعل من غزة هي القلعة الأخيرة كما كانت على مرّ التاريخ، وها هي تتعرض للانكسار على مرأى ومسمع من ينتظرون دورهم وهم لا يشعرون.
أولئك المنتظرون الذين اجتمعوا في الدوحة، ليعلنوا أنّهم لا زالوا ينتظرون في صفّ النعاج، كما وصف نفسه ووصفهم ذات قمة، حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق، والنعاج جينيًا لا تمتلك صفات الثورة والتمرد، فكان بيانهم الختاميّ إيذانًا بالاستعداد للصفعة المقبلة بكل رحبٍ وسعة، وأنّ للذئب "الإسرائيلي" مطلق الحرية في اختيار النعجة التالية.
غزة اتخذت من أسطورة طائر العنقاء، الذي ينبعث بعد احتراقه من الرماد، شعارًا لها، ونتنياهو لم يكن ولن يكون بعظمة العابرين، الذين حطمت غزة كبرياءهم، وصنعت مجدًا عسكريًا وتاريخيًا فوق أمجادهم، من الإسكندر المقدوني إلى سليم الأول ونابليون بونابرت وصولًا للبريطانيين وجنرالاتهم، وسيذكر التاريخ أنّ غزة واجهت وحدها عابرًا أصرّ ألّا يمرّ وينجو، بل أن يستقر ويحرق فيحترق ويغرق.